نعيش زمن الثورة الحقيقية، ثورة القيم والمبادئ الإنسانية الكبرى التي انتصر لها الإمام أبا عبد الله الحسين بن علي عليه السلام، ففي شهر محرم من كُـلّ عام تطل هذه المعاني، ويحتفل الناس، وتذهب بعض الطوائف إلى ملامسة حالة الألم شعوراً منها بالذنب التاريخي، كما هو في العراق فـ«كربلاء» بما تحمله من بُعدٍ إنساني مأساوي مدمّـر إلا أنها تحمل معنى الحق والعدل والقيم والأخلاق، تحمل معنى الثورة والتحول والانتقال من الظلم إلى رحاب الكرامة والعزة والعيش الكريم.
ولذلك يمكن القول إن أنشطة «الحسينيات» عند شيعة العراق ذات بُعد نفسي عميق تتجاذبه المضادات: زيادة/ خفض، ألم/ لذة، تمهيداً للانتقال أَو تعديلاً للشعور الطاغي بالذنب والمأساة، وقد تطور ذلك النشاط بفعل عامل الزمن ليصبح طقساً تعبدياً بلغ ذروته بالمزج بين المعنوي والحسي في الوصول إلى الألم فـ«كربلاء» أحدثت تعديلاً لها يتجاوز مأساتها ويتكيف مع مفرداتها، ومثلها كُـلّ الأحداث التي مرّت في التاريخ، والتفاوت كائن في قدرة كُـلّ حدث على التأثير في البنى العامة للمجتمعات الإنسانية.
ولذلك حين تمر بنا هذه الذكرى يفترض بنا الوقوف أمامها واستخلاص العظات والعبر منها وليس الخضوع للمنبهات، فمثل ذلك لم يعد مفيداً في زمن نرى كُـلّ شيء فيه يتداعى وتنهار فيه القيم والأخلاقيات، ونحن نملك القدرة على فلسفة كربلاء من حَيثُ الحدث والرؤية ومن حَيثُ البعد الأخلاقي، فالفلسفة ترى “لأخلاق على أنّها دراسة معياريّة للخير والشر وتهتمّ بالقيم المُثلى، وتصلُ بالإنسان إلى الارتقاء عن السلوك الغريزي بمحض إرادته الحرة؛ حَيثُ إنّها ترفُضُ التعريف السابق القائل بأنّ الأخلاق ترتبط بما يحدّده ويفرضهُ الآخرون، وترى أنّها تخصّ الإنسان وحده، ومصدرها ضميره ووعيه”.
ومن هذا التعريف الفلسفي المعاصر يمكننا قراءة كربلاء كحدث، وكثورة، وكتوجّـه، وكرؤية؛ لأَنَّنا سوف نعيد ترتيب الأشياء ونستطيع السيطرة على زمام الأمور، قبل أن نفقده في واقعنا الاجتماعي الذي أصبح يتعرض لهجمات الفوضى الخلاقة، ولفلسفة المجتمع المنحط التي يعلو شأنها اليوم في كُـلّ وسائل التواصل الاجتماعي؛ إذ بإمْكَان منشور ممول على صفحات الفيس بوك أن يجبرك على مشاهدة ما لم ترغب في مشاهدته، العالم من حولك يعيش مراحل ما قبل السقوط الأخير، وهو اليوم يعد عدته لصياغة نظام اجتماعي جديد يتسق والقرن الواحد والعشرين.
ما هي معالم القرن الواحد والعشرين؟
أبرز معالم القرن الواحد والعشرين هي الانحطاط والسقوط القيمي وهدم التطبيقات الاجتماعية والحرية الفردية المطلقة، وهدم الرمزيات الثقافية والتعامل مع الغرائز بدون موانع أَو قيود، بحيث يحق للذات أن تشبع غرائزها بما تراه مناسباً لها دون موانع ثقافية أَو قيود اجتماعية حتى في إطار الأسرة الواحدة، ولعل أغرب ما يمكنك مشاهدته عند نشطاء اليوتيوب نزولهم لمجتمع فتيات في شارع غربي وسؤالهن متى يحببن أن ينجبن قبل الزواج أم بعده؟ السؤال صادم لنا كعرب وكمسلمين لكن بالنسبة للمجتمع الغربي سؤال عادي وغالب الفتيات يجبن قبل الزواج، ومن غرائب الانحطاط في موسم الصيف أن تشاهد الشواطئ وفيها النساء عاريات والرجال أكثر احتشاماً منهن، هذا العالم الذي يحيط بنا سيترك أثراً فينا إن لم نتدارك الأمر اليوم قبل الغد.
قاد الحسين ثورة غايتها التصحيح الثقافي والأخلاقي في زمنه، وهذه الثورة تركت أثراً في كُـلّ التاريخ منذ كربلاء إلى اليوم، فلماذا لا تمتد فينا هذه الثورة اليوم؟ وتعيد فلسفة البعد الثقافي والأخلاقي، وبما يتسق والبعد الحضاري المعاصر، فالإسلام جاء كخصيصة أخلاقية بحتة ولذلك عمل على تنمية البعد الأخلاقي على مدى زمن النبوة ثم جاء آل البيت وتبعوا هذا المنهج الأخلاقي، وهو فطرة إنسانية تحدث عنها الأنبياء كلهم، ومن بعدهم الفلاسفة.
فأفلاطون يؤكّـد على البعد الأخلاقي وَتتمثّل الأخلاق عنده في كبح شهوات الإنسان، والتّسامي فوق مطالب الجسد بالالتفات إلى النفس والروح وتوجيههما لتحصيل الخير والمعرفة ومحاربة الجهل.
وَأرسطو: يرى أنّ الأخلاق مُرتبطة بسعادة الإنسان التي هي غاية وجوده، فيعرّفها على أنها الأفعال الناتجة عن العقل؛ مِن أجل الخير الأسمى؛ السعادة.
ومن خلال هذا المشترك الفلسفي يمكننا صوغ نظم أخلاقية مستندة إلى مبادئ الإسلام وتتعامل مع نظم ومقاصد البعد الفلسفي لنعيد ترتيب النسق الحضاري المعاصر قبل أن ينهار إلى مهاوٍ سحيقة سيكون ظلالها على البشر مدمّـرة.
فاليوم يمكننا القول باستحالة قيام مجتمعٍ دون قيمٍ أخلاقيّة؛ فالأخلاق هي ما يُحدّد معايير السلوك الإيجابي الخيّر، ويُرسّخ مفهوم الواجب لدى الأفراد، كما أنها تكبحُ أفعال الإنسان الشريرة فتقاومها وتهذّبها، وبعبارةٍ أُخرى هي ما يُملي على الإنسان ما ينبغي فعله وما لا ينبغي فعله.
فهل نعلن ثورة تصحيح للقيم الأخلاقية والثقافية في عالم يسعى مهرولاً نحو الانحطاط، وهل يمكن للحسين -عليه السلام- أن يلهمنا ذلك؟ نتمنى.
*نقلا عن : المسيرة