وقفنا في نهاية مساحة الأمس عند قول الخليفة عثمان، من على منبر رسول الله: «والله لنأخذنَ من هذا الفيء حاجتنا، وإنْ رغمت به أنوف أقوام». وفي هذا القول ما فيه، من الدلالة على حجم الكارثة، وفداحة المصيبة التي وقعت على رؤوس المسلمين، حينما تمكن بنو أمية من الوصول إلى سدة الحكم، والذين كانت نظرتهم للرسول صلوات الله عليه وآله، أنه ملك، وما رسالته إلا وسيلة لبلوغ الغاية، وقد صرح بذلك أبو سفيان، وفي أكثر من مكان، وظل محتفظاً بقناعته تلك حتى مات، فهو في زمن ولاية عثمان، كما كان في فتح مكة، ينكر الرسول صلى الله وسلم عليه وآله، ويكفر بالمعاد، ويوصي بتلاقف السلطة داخل البيت الأموي تلاقفَ الصبيان للكرة، ثم يذهب ليطأ بقدمه النجسة قبر سيد الشهداء حمزة، ويقول له في معنى كلامه: الملك الذي نازعتمونا عليه، بات لنا، فذق عقوق.
من هنا وجدنا الخليفة الثالث يقسم أقطار العالم الإسلامي على أقاربه، ويملكهم رقاب السكان وخيرات البلدان، حتى وإن كانوا كالوليد بن عقبة، الفاسق الفاجر الشارب للخمر، المجاهر بالمعصية، أو كسعيد بن العاص، السفاح المستبد، الذي كان يعد العراق بما فيه بستاناً لبني أمية، أو كابن أبي السرح الذي شرد المصريين ونكل بهم، واستولى على ممتلكاتهم، أو كمعاوية الذي مهد له الأمر، حين ضم إليه الشام كلها، وليست قضية اتهام هؤلاء الولاة في دينهم قضية مذهبية، فها هو سعيد بن المسيب يقول: إنه كان يجيء من أمراء عثمان ما يستنكره أصحاب النبي صلى الله عليه وآله، ولطالما استعتبوه فيهم فلا يقوم بعزلهم.
وقد قضى المسلمون فترة حكمه بين طبقة صغيرة ذات ثراء فاحش، وطبقة في ضعة وسخرة وفقر مدقع، وهي الغالبية السكانية في بقاع الإسلام، من هؤلاء المشكلين لتلك الطبقة الثرية المترفة جماعة ذكرهم المسعودي، على رأسهم الزبير، الذي بلغت ثروته خمسين ألف دينار، وألف فرس، وألف عبد وأمة، وضياعاً وخططاً في البصرة ومصر، ثم يأتي طلحة، الذي كانت غلته من العراق وحده كل يوم ألف دينار، ومثله عبدالرحمن بن عوف، الذي كان يملك مائة فرس، وألف بعير، وعشرة آلاف رأس من الأغنام، وقد خلف مع زيد بن ثابت من الذهب والفضة ما لا يمكن له أن يقسم بين الورثة إلا بعد تكسيره بالفؤوس، ولم يكن الخليفة بمختلف عن هؤلاء النفر، إذ كان لدى خازنه يوم مقتله مليون درهم، وتقدر قيمة ما امتلكه من ضياع بمائة ألف درهم.
وقد كان نصيب من يعارض سياسته من الصحابة العذاب والتنكيل، فهذا عبدالله بن مسعود، الذي كان خازن بيت المال، ما إن اعترض على سياسته المالية والإدارية حتى قال له: إنما أنت خازن لنا، فلا تعرض للوليد في ما يأخذ من المال، فرد ابن مسعود: لقد ظننت أني خازن للمسلمين، أما وأنا خازن لكم، فلا حاجة لي بذلك، وطرح له المفاتيح، ولم ينسَ له الخليفة ذلك الموقف، فبمجرد وصوله المدينة، ودخوله المسجد، وعثمان يخطب، فوقعت عينه عليه، ليقول عنه: قدمتْ عليكم دويبة سوء، مَن تمشي على طعامه يقيء ويسلح، وليته اكتفى بشتمه، ولم يأمر بضربه وطرده من المسجد بكل عنف، حتى تكسرت أضلاعه، وقد لقي عمار بن ياسر ما لقيه ابن مسعود، وإما أبو ذر فقصته معروفة لدى الثقلين.
تلك إضاءة موجزة على أكثر حقب الإسلام ظلماً وظلاماً.
* نقلا عن : لا ميديا