في كلمته التي وجهها إلى الشعب اليمني بمناسبة العيد الواحد والستين لثورة السادس والعشرين من سبتمبر، كان الرئيس مهدي محمد المشاط واضحاً، حيث تطرق إلى موضوع طالما تحدثنا عنه ولم يتنبه إليه أحد من أصحاب الشأن المتبنين لمشاريع الشتائم ويتمثل في الغسيل الوسخ الذي يحاول البعض نشره عقب كل حركة أو انقلاب أو ثورة .
وأنا أستمع إلى الرئيس المشاط تذكرت كلمة للرئيس الأسبق علي عبدالله صالح قالها عقب تنحيه عن الحكم وبقائه في البيت، سأله أحدهم ماذا تعمل ؟ أجاب “أنا أتحسر على نفسي، ثلاثون سنة وأنا أشتم الإمام يحيى وهو في قبره، واليوم أشاهدهم في التلفزيون وهم يشتموني أمام عيني”، والحادثة الثانية تمثلت في الموقف العظيم للرجل الوطني الصادق شاعر اليمن الكبير – بل أقول شاعر العروبة الأستاذ الراحل عبدالله البردوني “رحمه الله” – عندما أعلن في نادي ضباط القوات المسلحة في ندوة كبيرة أن مؤسس دولة اليمن الحديثة هو الإمام يحيى حميد الدين “رحمه الله”، وفي تلك اللحظة التي نطق بها العبارة كادت الدنيا تقوم ولم تقعد، بل وهبطت عليه الشتائم والاتهامات الزائفة رغم أن البردوني كان الأكثر صدقاً وموضوعية والأكثر حماساً للوطن، لكنه لم يتأثر بتلك المواقف الشاذة والطفولية، استمر على موقفه.. سألته ذات يوم بما تبرر مثل هذا الكلام يا أستاذ عبدالله؟ أجاب: إن الرجل فعلاً أراد أن يبني دولة ومؤسسات، إذ يكفي أن نُشير إلى حقائق هامة تتمثل في :
– عندما دخل من قفلة عذر إلى صنعاء رفض الدخول إلى المدينة مباشرةً وظل في الروضة لمدة عام، وعندما سأله الناس لماذا لم يواصل المشوار إلى صنعاء؟ أجاب “دخلت ومعي زُعماء الحرب من ساعدوني في فترة القضاء على فلول الأتراك وهؤلاء يريدون الثمن، دعوني أتخلص منهم ثم أدخل إلى المدينة بسلام” .
– الثانية أنه أبقى أربع وزارات بيد الأتراك وعندما احتج عليه زبانية الحكام الدائمين في كل زمان ومكان وأبناؤه، أجاب بكل ثقة ومسؤولية “تعلموا منهم الموضوع بناء دولة وليس أمراً عابراً”.
– الثالثة أنه لم يتسلم كرسي الحكم إلا بعد أن وضع أحكام الشريعة المسماة باختيارات وزارة العدل وحدد فيها كل ما يتعلق بالمواريث والخصومات وأحكام الشريعة الصافية البعيدة عن التعصب أو التزمت أو الانحياز غير المنطقي لفكر بذاته.
وعاد المرحوم ليسألني في نظرك أليست هذه صفات رجل دولة من الطراز الأول؟ فعلاً لم أتمكن من الإجابة في تلك اللحظة لكنها – كما وصفها الأستاذ عبد الله البردوني – صفات رجل دولة يُريد أن يبني دولة، مع ذلك كما قال الرئيس صالح تعرض للشتم والسب والتخوين وشاءت الأقدار أن تفضح الرجل ويعترف بنفسه بما أقدم عليه من جُرم، ولم يكن الاعتراف هو الدليل الوحيد لكن القدرة الإلهية شاءت أن تفضحه أكثر عندما أقدم بنفسه وفي فترة حكمه على بيع الأراضي اليمنية إلى الجانب السعودي، بيع نفاذ بينما كان الإمام يحيى قد وقع اتفاقية لمدة عشرين سنة فقط، كل هذه الحقائق تجعلنا نضع كلام الرئيس المشاط في ميزان الإنصاف والعدل وبالتالي نرى أن الرجل قالها صادقاً باحثاً عن كل ما يُقرب النفوس وما يُزكيها ويضعنا أمام اختيارات وطنية بحتة لا تنحاز إلى القبيلة ولا المنطقة ولا الحزب بل إلى الوطن اليمني بكل مقوماته، وهذا ما نأمل أن يكون عليه التغيير الذي أفصح عنه قائد الثورة السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي، حفظه الله، بحيث يكون التعيين للكفاءة والخبرة والقدرة من أين ما كان الرجل ومهما كانت اتجاهاته، المهم أن يكون صاحب خبرة وقادراً على تسيير الأعمال برؤية وطنية صادقة وهوية إيمانية متجذرة في الأعماق، لأننا تعبنا من تُجار الحروب والمتقمصين لأدوار البطولة في زمن ما بعد الحروب، فهؤلاء هم من يتمكنون من النفاذ إلى أروقة صانعي القرار ويؤثرون عليهم بحيث يصبحون هم الفعل البشع وهم آلياته وهم الفساد بعينه وهم أدواته، وحرام أن تظل هذه الإرادات الشاذة هي السائدة والمتحكمة في كل شيء، يجب أن يميل الجميع إلى فكرة تمجيد الفعل ومناصرته لا أن نظل نمجد حوادث أو أشخاصاً ونمنحهم ما يشبه القداسة، عند هذه اللحظة يمكننا الوصول إلى بر الأمان .
أكرر الشكر ثانيةٍ للرئيس المشاط الذي تطرق إلى موضوع هام ونرفع أصواتنا معه صارخين (يكفي الإمعان في جلد الذات وأن نتفرغ للعمل لا سواه، لا أن ينطبق علينا قول الله سبحانه وتعالى “كلما جاءت أمة لعنت أختها” صدق الله العظيم) والله من وراء القصد ..