بعد أن فشل في مساعيه لتحقيق التوازن في علاقاته مع "تل أبيب" وحماس، وتحت وطأة الضغوط الشعبية التي انحازت إلى جانب الشعب الفلسطيني بعد العدوان الصهيوني على غزة، لم يتأخّر الرئيس أردوغان في التعبير -ولو بشيء من الخجل- عن ردّ فعله على هذا العدوان الإرهابي الذي لم يستهدفه أردوغان بشكل مباشر حتى الآن، حيث اكتفى بالقول إن "قطع المياه والكهرباء والطعام عن غزة يتناقض مع أبسط معايير حقوق الإنسان. فأين هو الغرب؟! فأمريكا ترسل حاملة الطائرات ومعها مدمّرتان إلى شرق البحر المتوسط. وما علاقة أمريكا البعيدة عن المنطقة بهذه التطوّرات؟! فأيّهما يليق بدولة كأمريكا أن تسعى من أجل السلام أم أن تسكب الزيت على النار؟!".
ومن دون أن يهمل الرئيس أردوغان توجيه انتقاداته لأمريكا، التي أسقطت إحدى المسيّرات التركية شرق الفرات، تساءل: "ألسنا نحن وإياكم حلفاء في الحلف الأطلسي؟!".
التغيير النسبي في موقف الرئيس أردوغان بعد اتصالاته الهاتفية مع عدد من زعماء المنطقة، ومنهم السيسي وبوتين ومحمد بن زايد وتميم آل ثاني، أزعج واشنطن وحليفاتها في أوروبا. فقد بعث الرئيس بايدن برسالة إلى الكونجرس الأمريكي فيما يتعلق بآخر التطورات في شمال شرق سورية، وقال: "إن تصرفات الحكومة التركية حيال الوضع في سورية وأعمالها العسكرية هناك تعرقل مساعينا لإلحاق الهزيمة بداعش ويشكّل خطراً على السكان المدنيين، بل على الأمن والسلام في المنطقة، كما أنه يشكّل خطراً بالغاً ضدّ المصالح القومية لأمريكا وسياساتها الخارجية".
وجاءت تصريحات مارغاريتيس شيناس، نائب رئيس المفوضية الأوروبية، لتعكس حجم التضامن الأوروبي مع واشنطن، بعد أن قرّرت فرنسا وبريطانيا إرسال سفنهما الحربية إلى المنطقة لدعم الكيان الصهيونيّ. وقال شيناس: "لقد حان الوقت؛ على الرئيس أردوغان أن يحدّد موقفه بوضوح ليقول لنا إن كان معنا، أي مع الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي وشركائنا وقيمنا المثلى، أم مع موسكو وطهران وحماس وحزب الله".
الرئيس أردوغان، وربما في ردّه على بايدن وشيناس، ومن دون أن يسمّيهما، قال: "لا يمكن إحلال السلام وإرساء الهدوء الدائمين في المنطقة إلا بإقامة دولة فلسطينية مستقلة، ترتكز شرعيتها على قرارات الأمم المتحدة، ومتكاملة جغرافياً على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، ومعترف بها من العالم أجمع. إن البحث عن سبل أخرى، والسعي خلف رغبات أخرى، لن يسبّب إلّا المزيد من الدموع والمآسي والضحايا. وعلى الجميع أن يعرف جيداً أننا لن نقبل بأي خطوات أو إجراءات لا تحترم خصوصية القدس التي تضم الأماكن المقدّسة للديانات السماوية الثلاث، ومكانة الحرم الشريف الذي يضم المسجد الأقصى".
وأضاف أردوغان: "لا يمكن لإسرائيل أن تحافظ على وجودها كدولة من خلال تصرّفها كمنظمة تقوم بمجازر ضد الفلسطينيين في غزة. ونحن لا نريد أبداً أن تنجرّ إسرائيل وفلسطين ومنطقتنا إلى مثل هذه الحلقة المفرغة التي سبق أن عشنا أمثالها في الماضي. إن موقفنا ونضالنا ضد الإرهاب وجميع الحروب والصراعات الجارية في منطقتنا واضح للغاية، فنحن لا نرى أي مبرر لأي عمل ضد المدنيين، أو أي هجوم يستهدف التجمّعات المدنية. فالحرب أيضاً لها أخلاقيات؛ ولكن من المؤسف أن هذا المبدأ يتمّ انتهاكه بشكل كبير في الصراعات الدائرة في إسرائيل وغزة".
وتابع: "نحن نعارض بشكل واضح مقتل المدنيّين في الأراضي الإسرائيلية، كما لا نقبل على الإطلاق المذابح بحق الأبرياء في غزة من خلال تعرّضهم المستمر للقصف من دون أي تمييز. باختصار: إن الصراع الذي يتمّ تنفيذه بكل أنواع الأساليب المخزية ليس حرباً، بل هو مذبحة. إن الهجمات غير المتكافئة على غزة، والتي لا تعتمد على أي أساس أخلاقي، قد تضع إسرائيل في موقف لا تتوقّعه وغير مرغوب فيه في نظر الرأي العام العالمي".
انحياز الرئيس أردوغان هذا لصالح الشعب الفلسطيني انعكس بشكلٍ واضح على وسائل الإعلام الموالية له، والتي تهرّبت في الأيام الثلاثة الأولى من استهداف "إسرائيل" بشكلٍ مباشر. فالعديد من محطات التلفزيون الموالية لأردوغان أرسلت مراسليها إلى القدس والمناطق القريبة من غزة، ونقلوا من هناك رسائل تعكس همجية الكيان الصهيوني، وهو ما يساهم في التغيير الواضح في موقف غالبية الشعب التركي، وتسعى "تل أبيب" كالعادة لمنعهم من التضامن مع الشعب الفلسطيني وعبر أزلامها من الإعلاميين والأكاديميين ومن يسمون أنفسهم بالمثقّفين الذين خسروا مصداقيتهم بعد المشاهد المروّعة من غزة ليس فقط الدمار بل أيضاً المئات من الشهداء من الأطفال والنساء.
وهذا ما دفع أزلام "الإسرائيليين" هؤلاء للجوء إلى أكاذيبهم التقليدية، وأهمها أن "الفلسطينيون باعوا أراضيهم وهربوا من بلادهم"، و"العرب طعنوا الأتراك من الخلف بتمرّد الشريف حسين على الدولة العثمانية". فتصدّى لهم العديد من المتضامنين مع الشعب الفلسطيني وأثبتوا لهم أن الفلسطينيين لم يبيعوا أراضيهم، بدليل أنه عندما قامت "الدولة الإسرائيلية" كان اليهود يملكون نحو 6-7% فقط من مساحة فلسطين، وهو ما استولوا عليه بالإرهاب أو خلال سنوات الحكم العثماني الذي استمرّ 400 عام، كما استولوا على البعض من الأراضي بمساعدة سلطات الانتداب البريطاني وبعض الإقطاعيين السوريين واللبنانيين الذين كانت لهم ممتلكات في فلسطين.
وأما عن ثورة الشريف حسين فقد أشار البعض من المؤرّخين إلى ما قاله وزير الخارجية الأسبق، إسماعيل جم، عام 2004، حين كذّب هذه الادعاءات وقال إن 60% من الجيش العثماني في الحرب العالمية الأولى كان من المتطوّعين العرب الذين قاتلوا جنباً إلى جنب مع إخوتهم الأتراك وغيرهم، وقد كان تمرّد الشريف حسين قبل عامين من نهاية الحرب العالمية الأولى.
وفي جميع الأحوال، ومع استمرار التضامن الشعبي المتزايد، ورغم تجاهل الأنظمة العربية المعروفة لما يحدث في غزة، فمن الواضح أن أنقرة ستبذل كلّ ما بوسعها لتبقى على الحياد عملياً، وإلى أن تعلن الأنظمة العربية موقفها الواضح وتتخذ مواقف عملية لوضع حد نهائي للعدوان الصهيوني في غزة. وحينها قد يعود الرئيس أردوغان إلى نهجه التقليدي ضد الكيان الصهيوني ورئيس وزرائه نتنياهو الذي اتهمه أردوغان أكثر من مرة طيلة السنوات الماضية بـ"الإرهاب والإجرام والعنصرية وقتل الأطفال والنساء"، وهو ما فعله مع حكّام مصر والإمارات والسعودية، ولو بصفات وألفاظ مختلفة، إلا أنه عاد وصالحهم عسى أن يساعده ذلك في دعم سياسته الإقليمية والدولية.
ويبدو واضحاً الآن أن هذه السياسات باتت على المحك بعد تصريحات الرئيس بايدن، ويعرف الجميع أنه لن يرتاح لأردوغان، بسبب سياساته الحالية في سورية والعراق، والمستقبليّة في المنطقة عموماً، خاصة إذا انفجر الوضع الأمني والعسكري عموماً في المنطقة، وفيها أكثر من 50 قاعدة أمريكية، ونحو عشرين منها في تركيا قرب الحدود مع سورية والعراق وإيران، وهي أطراف الأزمة المقبلة مع كل احتمالاتها الصعبة والخطيرة.
ويرى البعض هنا أن الهدف الأخير لهذه الأزمات وما سبقها منذ سنوات ما يسمّى بـ"الربيع العربي" هو تركيا، التي تسعى واشنطن وحليفاتها في الغرب لتوريطها في أزمات أخطر تنعكس على واقعها الداخلي. كلّ ذلك مع استمرار الخلافات العميقة بين أردوغان وحلفائه، وبين المعارضة السياسية والشعبية التي لم تعد تخفي مخاوفها من المخاطر التي يشكّلها أردوغان داخلياً وخارجياً على مستقبل الجمهورية العلمانية التي تستعد للاحتفال بذكراها المئوية نهاية الشهر الجاري، ومن دون أي تحضير لذلك من قبل الدولة التي يسيطر عليها أردوغان.
ويعرف الجميع أنه يسعى منذ عشرين عاماً لأسلمتها وأسلمة الأمة التركية التي تعيش أخطر أزماتها الاقتصادية والمالية، وبالتالي الاجتماعية والثقافية والأخلاقية، وأخيراً الدينية. وكلّ ذلك هو نتاج لسياسات أردوغان الداخلية منها والخارجية وهو رأي نصف الشعب التركي على الأقل.
* نقلا عن : لا ميديا