كان إردوغان أول من اتصل بالرئيس بوتين خلال محاولة التمرد الأخيرة التي قادها زعيم قوات "فاغنر" الروسية يفغيني بريغوجين، معبّراً له عن تضامنه معه ومع الدولة الروسية. اتصال إردوغان هذا ذكّرنا بالاتصال الهاتفي الذي أجراه الرئيس بوتين بالرئيس إردوغان بعد يومين من محاولة الانقلاب الفاشل في 15 تموز/يوليو 2016 حيث أبلغه عن "تضامنه وتضامن موسكو معه ضد كل المؤامرات الداخلية والخارجية".
المعلومات الصحفية قالت آنذاك إن المخابرات الروسية هي التي أبلغت إردوغان مسبقاً بمحاولة الانقلاب واحتمالات الدور الأميركي في ذلك، كما تحدثت عن حماية جوية روسية لطائرة الرئيس إردوغان عندما أقلعت من مدينة مرمريس الساحلية في اتجاه إسطنبول بعد أن تحدثت المعلومات عن احتمالات إقلاع بعض الطائرات من قاعدة انجيرليك الأميركية لعرقلة مسار طائرة إردوغان.
اتصال بوتين والمعلومات التي تحدثت عن دعم روسي مباشر أو غير مباشر لإردوغان في تصدّيه لمحاولة الانقلاب التي ساعدته في التخلص من أكثر من 300 ألف من أنصار الداعية فتح الله جولان وأتباعه الذين كانوا يعملون في جميع مؤسسات الدولة، وأهمّها الجيش (25 ألف ضابط وضابط صف) والأمن والمخابرات والقضاء. وجاء اغتيال السفير الروسي في أنقرة أندريه كارلوف في 19 كانون الأول/ديسمبر 2016 كردّ على الدعم الروسي لإردوغان إذ تبيّن لاحقاً أن عنصر الأمن الذي قتل كارلوف هو من أتباع جولان. وساعدت كل هذه التطورات الرئيس إردوغان على تطبيق مخططاته، وأهمّها تغيير النظام البرلماني إلى رئاسي عبر استفتاء نيسان/أبريل 2017 وقيل إنه مزوّر فأعلن نفسه حاكماً مطلقاً للبلاد بعد أن سيطر على جميع مؤسسات الدولة وأجهزتها ومرافقها، وأهمها المؤسسة العسكرية التي كانت معقل العلمانيين.
كل هذه التطورات المثيرة سبقتها الرسالة التي بعثها الرئيس إردوغان للرئيس بوتين في 27 حزيران/يونيو 2016 واعتذر منه عن إسقاط الطائرة الروسية بالقرب من الحدود التركية مع سوريا في 24 تشرين الثاني/نوفمبر 2015. وكان هذا الاعتذار بداية التقارب والصداقة بين بوتين وإردوغان، والتقيا في بطرسبورغ في 9 آب/أغسطس 2016 ليضعا النقاط على الحروف في تفاصيل العلاقة الشخصية بينهما، والتي أوصلت العلاقات التركية-الروسية إلى ما وصلت إليه على الصعيد الثنائي والإقليمي والدولي. وهو ما اكتسب طابعاً عملياً بسماح الرئيس بوتين للقوات التركية بالتوغل داخل الأراضي السورية في 24 آب/أغسطس 2016. وجعل ذلك لاحقاً من إردوغان لاعباً رئيسياً في مجمل تطورات سوريا بانعكاسات ذلك على ليبيا والعراق ومنطقة القوقاز وآسيا الوسطى حيث الجمهوريات الإسلامية ذات الأصل التركي، وهي الحديقة الخلفية لروسيا. وكان ذلك سبباً لفترات من الفتور والتوتر بين إردوغان وبوتين الذي يبدو أنه لا يريد أن يخسر أنقرة في تحدياته للحلف الأطلسي وأميركا، الحليف التقليدي لتركيا، وفيها أكثر من عشرين قاعدة أميركية وأطلسية.
التضامن الشخصي والرسمي بين إردوغان وبوتين وبكل تناقضاته، إذ التقيا حتى الآن أكثر من عشرين مرة خلال السنوات السبع الماضية، وتحدثا هاتفياً ما لا يقل عن أربعين مرة، يبدو واضحاً أنه سيستمر ما دام الطرفان مستفيدين منه. فتركيا ذات موقع استراتيجي حساس جداً بالنسبة إلى مجمل الحسابات الروسية، وخاصة في البحر الأسود، وهو ما يستغله الرئيس إردوغان في مساوماته الإقليمية والدولية بما في ذلك علاقاته مع الحلفاء التقليديين في الغرب، ولا سيما واشنطن التي لا تريد أن تدفع بإردوغان في اتجاه الحضن الروسي أكثر مما فعلته حتى الآن. ومن دون أن يكون واضحاً من هو الأكثر حنكة سياسية إردوغان أم بوتين، بعد أن بات واضحاً أن موسكو هي الأكثر حاجة إلى أنقرة وليس العكس.
ويفسر ذلك تجاهل بوتين للتصرفات والمواقف التركية المناقضة للحسابات والمصالح والاستراتيجيات الروسية في سوريا وليبيا والمنطقة العربية وكل من القوقاز وآسيا الوسطى والبلقان، على الرغم من "الصداقة المتينة " بين إردوغان وكل من رئيس صربيا ألكسندر فوتشيتش ورئيس وزراء هنغاريا فيكتور أوربان، واللذين يعترضان على السياسات الأميركية والأطلسية ضد روسيا في أوكرانيا.
ويبقى الرهان على السيناريوهات المحتملة لسياسات إردوغان مع واشنطن والعواصم الغربية، واستمرار حاجته إلى دعم هذه العواصم له في أزمته المالية الخطيرة، والحل المؤقت لها قد يكون عبر دعم العواصم الخليجية التي لم تتأخر في الإعلان عن دعمها للرئيس بوتين. وهو ما فعله ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في محاولة منه لرد الجميل للرئيس بوتين الذي وقف إلى جانبه عندما كان في عزلة تامة دولياً، بعد أن حمّلته واشنطن والعواصم الغربية مسؤولية مقتل الصحافي جمال خاشقجي في إسطنبول في تشرين الأول/أكتوبر 2018.
ومع انتظار المزيد من التطورات في "مثلث الوفاء" بين بوتين وكل من إردوغان ومحمد بن سلمان، بعد أن كانا في عداء مرير، فقد بات واضحاً أن غباء السياسات الأميركية في الشرق الأوسط كان وما زال المبرر الأهم بالنسبة إلى بوتين وإردوغان ولاحقاً بوتين مع حكام الخليج وأخيراً بين إردوغان وهؤلاء الحكام، خاصة بعد المصالحة السعودية -الإيرانية. وهو ما تراقبه "تل أبيب" من كثب وهي الخاسر الأكبر من كل هذه المعطيات، بعد أن كانت الرابح الأهم من سنوات ما يسمّى "الربيع العربي"، وأبطالها هم أنفسهم الذين يتحدثون الآن عن السلام والأمن والاستقرار!
* نقلا عن :الميادين نت