في حين يظهر العدو الإسرائيلي عاجز عن احتمال ألم الطوفان، وتجاوز الحدث شكلاً ومعنى؛ يطرح جهلة ومطبعي هذا الزمن سؤالاً مفتوحاً: ماذا حققت عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر-تشرين الجاري؟
يمكن القول ابتداء إن طوفان الأقصى حقق ما عجزت عنه أنظمة عربية بجيوش وأسلحة وميزانيات دول. ذلك الطوفان الذي دفع وزير مالية العدو للقول: يجب أن نقبل الهزيمة برأس منحني؛ أظهر أيضاً رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو مثخناً بجراحه المعنوية، عاجزاً عن استجلاب الغطاء لتبرير الهزيمة قائلاً: إنه اليوم الأسوأ منذ المحرقة النازية. وبالفعل هو "أسوأ يوم في تاريخ إسرائيل" على رأي متحدث جيش العدو جوناثان كونريكس.
هزيمة العدو الإسرائيلي لا تقاس اليوم بحصاد الخسائر المادية فقط، ولا بقياسات مرحلية أو نطاقات جغرافية محدودة وحسب. إنها تتجاوز الماديات إلى المعنويات وتتخطى المرحلية إلى الاستراتيجيات، وتعبر سماء المحتل إلى عواصم العالم المتصهين.
وبصرف النظر عما أوردته السنة العدو يجدر بنا الولوج إلى فصول الهزيمة وتداعياتها؛ فالعدو يضيق دائرة الضوء على الهزيمة ليحجب الضوء عن كامل المشهد.
داست طوفان الأقصى (أسطورة الجيش الذي لا يقهر) فقهرته، وأذلته، وقتلته، وسحبته أسيراً من حصونه المحروسة بأعين العالم الغربي، وجيوشه، وأسلحته. وبمعنى آخر تنفق إسرائيل على تسليح الجيش وبناء قدراته 20 مليار دولار سنوياً. لكن هذا الرتل العسكري المتطور والمتقدم الذي بني أساساً لغرض تتمدد الدولة اليهودية، كان عاجزاً عن حماية نفسه. وبالتالي أعادت طوفان الأقصى الدولة اليهودية إلى كابوس النشأة الأولى: "الفشل في بناء وطني قومي وحمايته" وجعلت مطامع توسعه خارجاً مجرد أحلام وردية يصعب أن تصبح واقعاً.
إن عودة إسرائيل إلى مخاوف النشأة الأولى؛ تلقي بضلالها على احباط مشروع التطبيع وكبح جماحه. فالمطبعون العرب والواقفون على طابوره هم بالأساس باحثون عن الأمن والاستقرار من إسرائيل. لكن طوفان الأقصى قال لهم ببساطة: إسرائيل لا تملك الأمن والاستقرار حتى تبيعهما. وهل هناك ما هو أكثر ايلاماً ووجعاً وحسرة على العدو الإسرائيلي وداعميه من فشل التطبيع؟ من أن يعود هذا المشروع إلى نقطة البداية بعد 7 عقود من مسيره الخائب، بالتأكيد لا. وبالتأكيد أن مسلسل الفشل والهزائم لم ينتهِ عند هذا المستوى فقط.
لقد حولت طوفان الأقصى إسرائيل إلى عبء على المنظومة الغربية اليهودية بقيادة أمريكا. بعد أن كانت بنظرهم إسرائيل رهاناً رابحاً للحفاظ على موقع ومكتسبات النفوذ الغربي اليهودي وتمدده بالمنطقة.
إن هذا الفشل وحده يتطلب عقوداً من إعادة الترميم، ودون شك انفاقاً مضاعفاً عما أنفق سابقاً لاستعادة هذا الموقع المفقود. إنهم يحاولون اليوم اسعاف هذا الجواد الخاسر بحاملتي (جيرالد فورد وازنهاور) اللتان فشلتا أساساً في الحفاظ على النفوذ الأمريكي بالمنطقة أو حماية حلفائها بالخليج، وباتتا تؤديان دوراً دعائياً أكثر من كونه عسكرياً، فكيف إذاً ستحافظ هذه الحاملات الدعائية على نفوذ إسرائيل التي عجزت عن حماية وجودها أصلاً؟ ثم ماذا أبقيتم لإيران نفسها إذا كان هذا النفير العسكري الكبير أمام مقاومة مدعومة من إيران!
بهذا الصدد الحقت طوفان الأقصى منظومة استخبارية إسرائيلية من الأعلى انفاقاً على مستوى العالم بقطار الفشل والهزائم والخيبات المتتالية. وللدقة لم يكن فشلاً وهزيمة استخباراتية اسرائيلية فقط، بل فشل وهزيمة شركاء الأهداف والأطماع والغايات في المنظومة الاستخبارية الغربية المتيهودة.
على الجهة المقابلة، وتحديداً البيئة الداخلية للأمة العربية والإسلامية، أحيت طوفان الأقصى الروح المعنوية للشعب الفلسطيني الذي أحبطه الخذلان طوال 7 عقود. كما أحيت الروح المعنوية للأمة العربية والإسلامية التي فقدت الأمل بأنظمتها العاجزة عن هزيمة العدو الإسرائيلي أو تحرير الأراضي المحتلة.
من جانب أهم، مثل خروج الشعوب العربية والإسلامية تلبية لنداء يوم الغضب ودون إذن الأنظمة الحاكمة اصطفافاً واضحاً وراء محور الجهاد والمقاومة. فاليوم باتت تنعقد آمال هذه الشعوب على هذا المحور وتلتحق علناً بأهدافه وغاياته العدالة. ما يعني أن الصهيونية العالمية لم تفشل بتقويض شعبية محور المقاومة والجهاد وحسب، بل بات المحور اليوم قادراً على تحريك الشعوب ومخاطبتها وحمل غاياتها إلى المقاصد التي كان هذا النفير العسكري والاستخباراتي والسياسي والإعلامي الصهيوني اليهودي الغربي يخشى اقتراب المحور منها.
"لأول مرة في تاريخ الصراع الإسرائيلي-العربي، أثبت الفلسطينيون للإسرائيليين أن الاحتلال مكلف جداً، لدرجة أنهم ودون أسلحة متطورة وحديثة أوجدوا ميزان رعب للصراع، وجعلوا الهجرة من إسرائيل واقعاً ملموساً". على حد تعبير الرئيسة السابقة للجنة استيعاب المهاجرين في الكنيست.
إن ما سبق ليس كل انتصار المقاومة الفلسطينية، بل هي عناوين النصر الرئيسية التي لا حدود لفروعها، ولا منتهى لتداعيات خيباتها وفشلها وهزائمها على العدو الإسرائيلي الذي يحاول يائساً استرداد هيبته المهدورة بالإمعان في جرائمه الوحشية.
نعم، لقد أجهزت طوفان الأقصى على البناء المتراكم للصهيونية العالمية واستثمارها بزراعة العدو الإسرائيلي منذ 1948. لم تكن هزيمة معركة في إطار حرب مفتوحة يمكن تعويض خسائرها الفادحة بسهولة. إنها هزيمة 7 عقود، هزيمة جيوش، هزيمة أنظمة، هزيمة تيريليونات، هزيمة تحالفات، هزيمة استراتيجيات، هزيمة استخبارات، وأمام من؟ مقاومة محدودة الجغرافيا والمال والحلفاء والسلاح.
*نقلا عن : المسيرة نت