بالإضافة لدولة آل سعود ليس سوى دولة داعش التي تشبهها في التباهى بحفلات قطع الرؤوس كطريقة للتعامل مع الخصوم والمعارضين. نفس الأسلوب ونفس العقلية ونفس الأغراض؛ خلق صدمة الرعب لتركيع المجتمعات. إنه الإرهاب نفسه، بل يبدو أن داعش لم تأت بجديد سوى أنها قلدت بعض أساليب دولة آل سعود.
يعرف العالم كله أن النظام السعودي هو المنبع الأصلي لأفكار الإرهاب الديني التي شوهت صورة الإسلام، وهو المؤسس والممول لأشهر التنظيمات الإرهابية، وصانع الحاضنة الكبرى لتفريخ الإرهابيين في أرجاء العالم. لذا فهي مفارقة مثيرة للسخرية أن يتبجح نظام كهذا بإنشاء محاكم خاصة وإصدار تشريعات تحت مسمى قوانين مكافحة الإرهاب.
تلك القوانين ببنودها القمعية وتوصيفاتها الهلامية غرضها الفعلي هو استخدامها كغطاء لتجريم حرية التعبير وقمع المعارضة السياسية حيث أنها تستخدم كغطاء دعائي لإعدام المطالبين بحقوقهم الأساسية المكفولة في كل المواثيق الدولية.
في الواقع العملي يتضح أن قوانين محاربة الإرهاب ليست سوى قوانين لإرهاب الشعب. أما الإرهابيون والقتلة وفرق الاغتيالات الرسمية وعصابات الفساد والنهب والخونة المتآمرون مع أعداء الأمة؛ فكل هؤلاء يحظون برعاية السلطات السعودية وحمايتها، فهي تكرمهم وتضع بعضهم على هرم السلطة والثروة كما تمنح البعض الآخر مناصب دينية وصلاحيات لتجنيد الشباب وإرسالهم للقتال ضمن صفوف الجماعات الإرهابية في البلدان الأخرى.
هل رأيتم أحدا من هؤلاء يمثل أمام محكمة الإرهاب؟!
يتأكد هذا بالنظر إلى قوائم أسماء من يتم جرجرتهم إلى محاكم الإرهاب، فالغالبية العظمى منهم ليسوا سوى معارضين سياسيين أو مثقفين وأصحاب رأي يطالبون بالحريات وبعض حقوقهم المدنية.
وباستثناء قلة يعدون على الأصابع، فإن جميع ضحايا مهرجانات الإعدام السلطوية هم في الحقيقة مجرد متظاهرين وكُتَّاب ونشطاء سياسيين وحقوقيين أرادوا التعبير عن آرائهم مطالبين بالحريات الأساسية التي يكفلها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وأقصى جريمة تجرأ عليها بعضهم هي الاحتجاج العلني على السلطة.
وحتى لمن لا يعرف تفاصيل قضايا المحكومين بالإعدام سيدرك الحقيقة بملاحظة بسيطة هي أن 90% تقريبا من الذين يتم إعدامهم بحجة الإرهاب هم من إخوتنا في الطائفة الشيعية وأن اعتقالهم كان بسبب مشاركتهم في المظاهرات أو تأييدهم للاحتجاجات الشعبية التي شهدتها المنطقة الشرقية. هؤلاء تم إعدامهم أخيرا بعد أن تجرعوا سنوات من الاعتقال والتعذيب الوحشي رغم أن بعضهم كانوا في سن الطفولة عند اعتقالهم.
هكذا أيضا تستخدم قوانين مكافحة الإرهاب لتمويه الإجرام الرسمي وعقد محاكمات صورية تسقط الحق في الدفاع وتصدر الأحكام دون أدلة، ويتم تغطية كل ذلك القتل الإجرامي بادعاء مروره عبر إجراءات قانونية واعتماده بأحكام قضائية تستهدف محاربة الإرهاب!
فبالإعدام الوحشي يتحقق الهدف الأساسي على المستوى الداخلي عبر استراتيجية التخويف، وفي نفس الوقت تسعى السلطات لمغالطة الخارج عبر الادعاء أن الأمر شأن جنائي يخص القضاء السعودي، بل وتظن أنها تستطيع تحسين سمعتها الدولية حين تصور المتظاهرين والمعارضين على أنهم إرهابيون لغرض توفير مسوغات هزيلة للدعاية الخارجية ساعية لتسويق جرائمها ضدهم إعلامياً من خلال تقديمها باعتبارها إنجازات سعودية في مجال مكافحة الإرهاب!!
مواجهة الخوف
لا شك أن استراتيجية الخوف قد نجحت في السيطرة على الغالبية الساحقة من الناس، وهي سيطرة تسعى السلطة لتغذيتها وتعزيزها باستمرار كي لا تضعف وتتلاشى بمرور الأيام وتوالي الحقائق أو تراكم الوعي. وهنا يأتي دور القلة الباقية من الأحرار وحملة الوعي في أداء واجبهم لكشف أهداف سياسة التخويف والتخفيف من تأثيرها المتحقق قدر الإمكان.
بخصوص قضية إعدام النشطاء والمعارضين فإن المهمة العاجلة التي يجب القيام بها هي الاشتغال على خلخلة منظومة الرعب عبر توجيه الطاقة الشعورية للخوف باتجاهات أخرى كالاشمئزاز والغضب.
وبهذا الصدد سأقترح على إخوتي الأحرار في المنطقة الشرقية وكل مناطق المملكة التي تتعرض لنفس الهجمات، مجموعة أفكار عسى أن يجدوا فيها ما يفيد ويمكن تطبيقه رغم أجواء القمع المحيطة بهم، آملا اهتمامهم بتداولها وتطويرها لتوعية الناس من حولهم بحسب ما تسمح به الظروف الأمنية سواء من خلال الحوارات الفردية أو المنشورات أو المقالات والمراسلات... إلخ.
هذا مع التأكيد على أهمية أن يتناسب خطاب التوعية الاجتماعية مع عقلية عامة الناس بالأسلوب الذي يفهمونه ويتفق مع اهتماماتهم ويوحدهم خلف هدف مشترك بمسوغات وضوابط مستمدة من هوية المجتمع والقيم الأساسية المجمع عليها بحيث تجمع ولا تفرق. وهو ما حرصت عليه في صياغة مقترحاتي أدناه والتي أقدمها كجهد متواضع أدرك أنهم أجدر وأقدر على الإتيان بما هو أفضل منه لكنني لم أستطع منع نفسي من تقديمه كمساهمة قد تخفف من ألمي لمصابهم وتشعرني بفخر الانتماء لهم والولاء لمبادئهم.
وفيما يلي مجموعة من الأفكار ومعها بعض المفاهيم والتوجهات التي يفترض ترسيخها في أذهان الناس:
- السعي لخلق وتنمية شعور عام بالاستهجان والاشمئزاز من همجية النظام واجترائه على سفك الدماء المعصومة للمتظاهرين بهذي الدرجة من البشاعة والإسراف.
- عدم الاستسلام لمساعي استراتيجية التخويف والامتناع عن المساهمة في تحقيق أغراضها دون قصد.
- الحرص على تخليد الضحايا في وجدان الناس وتعظيم ذكراهم باعتبارهم شهداء في أعظم جهاد عند الله.
- تحديد موعد لإقامة صلاة الجنازة على أرواحهم في وقت واحد سواء أفرجت السلطات عن جثامينهم أم احتجزتها.
- توضيح أن من يصف ضحايا الإعدام بالإرهابيين فهو مشارك في جرم قتلهم ليس فقط من الناحية الأخلاقية بل من الناحية الدينية.
- تكرار توضيح أن السبب الفعلي لقتل المعارضين هو أنهم رفضوا الباطل وصدعوا بكلمة الحق في وجه سلطان جائر باعتراضهم على ما يحدث من فساد وخيانات للأمة والانتماء الإسلاميين، وإهدار أموالها والمتاجر بمقدساتها.
- التأكيد على أن توقف الاحتجاجات الشعبية يعد خيانة لدماء الشهداء وإهدار لتضحياتهم، كما أن استمرار صمت المواطنين على جرائم ابن سلمان وتآمره مع الصهاينة -أشد الناس عداوة لأوطاننا وديننا- هو بمثابة تواطؤ مع كل المؤامرات التي تحاك ضد أمتنا.
- تأنيب وإدانة الفئة الصامتة الذين اختاروا الاستسلام للخوف مؤثرين حياة السلامة الذليلة على حساب أعظم الجهاد بامتناعهم عن قول كلمة الحق في وجه سلطان جائر وخائن، فأولئك الصامتون الخائفون بفعلهم هذا اشتروا دنياهم بآخرتهم فما لهم في الآخرة من خلاق. وليعلم جميع المتخاذلين والشامتين والمداهنين أنهم سيلاقون الله في ذلك اليوم كشهود زور أو حاشية يرافقون الظالمين إلى جهنم (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسُّكمُ النار).
- التأكيد على أن الحركة الاحتجاجية الشجاعة في المنطقة الشرقية لا تخص إخوتنا الشيعة وحدهم بل جميع أهل البلاد المنكوبة بسلطة العائلة السعودية، لذا فلا يصح حصر الاحتجاج في نطاق طائفة محددة كون زوال النظام السعودي هو غاية جماعية لكل المظلومين المنهوبة ثروات بلادهم والمهدورة حقوقهم الإنسانية والسياسية.
- العمل على خلق وتنمية إحساس الانتماء والمسؤولية عن القضية الفلسطينية والمقدسات الإسلامية لدى عامة الناس، من حيث أن كل الخيانات التي نفذها حكام المملكة في الماضي والحاضر يراد تطبيقها على الأرض.
ولذا فجميع أفراد هذا الشعب مسؤولون عما يحدث باسمهم وبتمويل مستمد من ثروات بلادهم. فإن كانوا لا يكترثون بمصيرهم كشعب، فليفكروا بالدين الإسلامي الذي جرى تشويهه عمدًا بتقديمه في صورة دين دموي يتقرب إلى الله بدماء الأبرياء لخدمة أغراض أمريكا وتبييض وجه الصهيونية العالمية التي حصلت بالإرهاب على حجة للقول إن أعداءها ليسوا أصحاب حق بل مجموعة من الأشرار، فالإرهاب دفع الكثير من شعوب الأرض لكراهية الإسلام والاصطفاف مع الصهاينة ضد العرب والمسلمين. لهذا كله فإن الاعتراض على سياسات ابن سلمان هو واجب وطني وقومي وديني وإنساني.
- الإيمان بقداسة الحرية الإنسانية وتجذير الانتماء لأمة إسلامية تحمل رسالة سامية.
من المهم أيضا الاستمرار في إبقاء مواضيع وأفكار الاحتجاج والتوعية ماثلة في الأذهان على الدوام من خلال النقاش أو طرح مقاربات منطقية أو جدلية -ولو في الخفاء أو على المستوى الفردي- تساعد على تنشيط التفكير المجتمعي لإبقائه ضمن نطاق القضايا المصيرية للوطن والأمة على الدوام.
علينا تسمية الأشياء بمسمياتها الصحيحة، فما اقترفته سلطات الإجرام السعودي هو بالضبط مذبحة جماعية نفذها مجرم مغتصب للسلطة، ولأنه يعرف ألا شرعية لما فعله ولا حق يتيح له إعدام ضحايا لم يقترفوا جريمة تبرر إعدامهم أمام العالم فقد لجأ لاختراع قانون تعسفي يسلب الضحايا حقهم في الدفاع عن أنفسهم ليحاكمهم على جرائم وهمية ويدينهم بتلفيق تهم كاذبة واعترافات مزورة.
هي مذبحة نفذها قاتل جبان، فلو لم يكن جبانا لما خاف من مجموعة مواطنين لم يفعلوا شيئا سوى رفض الظلم ممارسين حقهم في التعبير عن رأيهم. ورغم أن بعضهم فتيان صغار السن، لكن جبنه صورهم له كخطر محدق يهدد عرشه وفي هذا ما يدل على مدى الرعب الذي يسكن نفوس الحاكمين ويعملون على تسكينه أو إسقاطه بتخويف المحكومين، فالسلطة التي تخاف من مجموعة متظاهرين وكتاب رأي وتلجأ لإبادتهم هي في الحقيقة تؤكد مدى هشاشتها وهزالها وتقر ضمنياً بمدى قدرة الناس على الإطاحة بها.
وبالنظر لاختيار توقيت الإعدام يمكن استنتاج دلالات مهمة عن نفسية القاتل محمد ابن سلمان، حيث أن نسبة كبيرة من الضحايا كانوا معتقلين في السجون منذ عام 2011م دون أن يفكر بإعدامهم طوال سنوات حكمه رغم تنفيذ عدة حملات إعدام في السنوات الماضية!
هذا يدفعني لاستنتاج أن أهم دوافع ابن سلمان لإعدام هذا العدد الكبير في هذي الأيام هو حاجته النفسية لتعويض هيبته المهدورة بعد فضيحة خاشقجي وبعد فشله بتحقيق أي انتصار ملموس في اليمنيين المحاصرين خلال سبعة أعوام رغم كل الترسانة العسكرية التي استخدمها. كما يسعى أيضا لإعادة فرض سطوته والإيهام بقوته كطاغية مسيطر في عيون شعبه بعد الإهانات العلنية المتلاحقة التي وجهها له سيده ترامب، والحقها به جو بايدن ناهيك عن الإذلال والاحتقار الذي يتلقاه يوميا من وسائل الإعلام المحلية والعربية والعالمية.
السؤال المهم هو: لو افترضنا أن احتجاجات المنطقة الشرقية ما زالت نشطة، فهل كان ابن سلمان سينفذ أحكام الإعدام؟ على الأرجح، لا. لم يكن ليغامر بفعل كهذا. على الأقل ليس كل هذا العدد دفعة واحدة، وهذا ما سيأتي تفصيلة بالحلقة الثالثة والأخيرة.
* صحفي يمني مهتم بالشأن السعودي