كثيرٌ منا وبطبيعة النفس البشرية من يتشبث بهذه الحياة ما استطاع إليه سبيلاً، خشية الموت الذي لا يعلم ما ينتظره بعد من مصير وهي حقيقة لا نستطيع أن نقف أمامها منكرين، فنحن جميعنا نجهل أكنا ممن صلحت دنياهم فكانت فاتحة الخير لأخراهم أم هو العكس الذي نخشاه وَنصر مستكبرين تمسكاً بدنيا معروف أن خاتمتها الموت!
بيد أن هناك مَن يغادر هذه الدنيا وَقد علم بما ينتظره من نعيم مقيم وجنان وارفات وحياة لا موت فيها ولا نشور؛ فثمة موت يكون بداية حياة وَخلود ولا ينطبق عليه مسمى الموت الحرفي وهو الذي تتمناه النفس وَتشتهيه ولا سبيل لها إليه إلا من باب الجهاد الذي فتحه الله لعباده الصادقين أُولئك الذين باعوه أنفسهم وَأموالهم في تجارةٍ رابحة إعلاءً لكلمته وَذوداً عن المستضعفين من خلقه فمنهم من قضى نحبه وَمنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً ويكون الثمن هو الجنة فرحين مستبشرين بنعمة الله وَفضله!
هي الشهادةُ بما تحمله من معانٍ سامية في التضحية وَالشجاعة وكل معاني الحرية التي حملها أُولئك الممتلئة قلوبهم بقيم الدين المحمدي الذي الأصيل وَالذي ما جاء إلا لتعبيد الناس لله وحده ورفع الظلم عن هذه الأرض وإرساء معالم العدالة والحرية بين عباده.
وبالتالي فأينما وُجد الظلم ظهر من أُولئك الصادقين لمقارعته غير آبهين بدنيا ولا مصير وما ذاك إلا لكونهم أدركوا أن ما هم ماضون إليه إنما هو إحدى الحسنيين: فإما نصر يعلي كلمة الله وتُعز به أرضهم وبه تصان كرامة شعبهم وكرامتهم، وإما الشهادة التي لا يلقاها إلا ذو حظ عظيم وبها يبلغون مقام الأنبياء والصديقين، وهي التجارة الرابحة التي ذكرها الله بقوله: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) فتسابقوا لعقد هذه البيعة فكانوا خير من باع مع خير من اشترى، وبالتالي فهم الرابحون بكلتا الحالتين وكانت الشهادة بمثابة صك عبور لمقعدهم بجوار ربهم يرزقون تاركين وراءهم سامقات الحرية والعزة والكرامة تظلِّلُ أوطانهم وشعوبهم، “فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ”.
لذلك وَنحن نقف هذه الأيّام على الذكرى التي خُصِّصت لهم ليس من باب التذكير بهم فهم الأحياء فينا ما حينا وَما نحن إلا بهم أحياء “أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ”.
إنما تأتي هذه الذكرى لتكون بمثابة محطة نقف عليها بخشوع نتدارس سير أصحابها الأبرار نبحث عن السر الذي جعلهم ينالون به تلك المنزلة العظيمة حتى نجعل منهم مدرسة نتزود منها بكامل معاني التضحية وَالحرية وَنجعلها منهجاً قيماً نخُطُّ عليه بقيةَ أيامنا في استكمال ما بدأوه حتى يتحقّق لنا وللأُمَّـة النصرَ المبينَ وَالعزة التي يوماً ما أصبحت كلمةً نبحث عنها عند بوابات الغرب وطواغيت الأرض رهبةً منهم وخشيةً أن يطالنا ضرهم فما زادونا إلَّا ذلاً وَإضراراً وبُعداً عن ربنا وقيم دينه ومبادئه لندرك أخيراً أنها ليست إلا أمام عتبات روضات الشهداء الذين سطّروا حروف الشهادة برصاص بنادقهم وحبر من دمائهم حين ناداهم الوطن مستغيثاً بهم فلبوا نداءَه غير آبهين بمتاعٍ ولا دنيا ولا مكترثين لخطرٍ أَو مصير، وبالتالي فقد خطوا أسماءَهم ورفعوا أجسادهم على منابرٍ من نور وَلهم منا كُـلُّ العهد بأنا على دربهم سائرون.