محمد أ. الحسيني*
مواقف قادة الاحتلال حول العدوان على قطاع غزة وجبهة الشمال مع لبنان وتصوراتهم حول اليوم التالي بعد انتهاء الحرب، والتي تتأهب لاختتام شهرها الثالث، توحي وكأن بنيامين نتنياهو ومجلس حربه المصغّر قد حقّق خطوات ميدانية تجعله واثقًا من مآلات المواجهة وإمكانات الحسم الميداني وفقًا للخطط العسكرية المقرّة. ولكن هذه التصريحات، مع بدء مرحلة ثالثة يائسة من العدوان، تعكس في الواقع مبارزة "صراخ" بالأسلحة الصوتية يخوضها نتنياهو على خطين: الخط الأول سياسي – انتخابي، وأخصامه في هذا السياق كثر وأبرزهم زعيم المعارضة يائير لابيد الذي يترصّد أي هفوة سياسية أو منزلقًا يرتكبه معسكر الحكومة حتى يبدأ بإطلاق مواقفه النارية في كل حدب وصوب، وكذلك بيني غانتس الذي يبدو أنه يستثمر بأوراق نتنياهو الحربية في داخل البيت الحكومي الواحد، ليزيد من حظوظه في كسر الهيمنة التاريخية لليكود ويفتح طريقه إلى رئاسة الحكومة؛ خصوصًا أن الاستطلاعات تشير إلى أن لابيد وغانتس باتا مؤهلين للقضاء على نتنياهو سياسيًا، ولا سيّما في ظل نتائج مواجهة "طوفان الأقصى". أما الخط الثاني فهو وجودي، ويتعلق بمستقبل نتنياهو نفسه أولًا، وثانيًا بمستقبل "إسرائيل" الكيان والمشروع الاستعماري في المنطقة.
الخطر على مشروع الدولة
ولئن عددنا أنّ المبارزة في الخط الأول هو سياق تاريخي معتاد في الحياة السياسية للمجتمع الإسرائيلي وبين الأحزاب الصهيونية، إلا أنها حاليًا باتت أكثر عمقًا وتأثيرًا على التركيبة الاستيطانية القائمة على أرض فلسطين المحتلة، حيث لم تعد تنافسًا بين من هو أكثر إخلاصًا لمشروع "الدولة اليهودية"، بل أصبحت معركة صمود مقابل حرب إسقاط يخوضها أشخاص لمنافع ذاتية وأهداف خاصة؛ أما في الخط الثاني فيكمن الخطر كلّه، لأنه يمسّ أصل المشروع الصهيوني، وعنوانه السقوط في الحرب الراهنة على يد المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة. وليس نتنياهو وحده من يستشرف هذا الخطر، فالإدارة الأمريكية التي ترى الأزمة بمنظار أوسع من حدود الكيان المؤقت باتجاه النصف الشرقي كلّه من الكرة الأرضية، تحاول بأقصى جهدها أن تمنع هذا السقوط، فتطلق يد نتنياهو في متابعة جنونه الإجرامي، مع الحفاظ على حدّ مقبول من "الشرعية" التي تحتاجها "إسرائيل" في أي تركيبة جيوسياسية جديدة للمنطقة.
المستنقع الغزّواي
تأسيسًا على ما سبق، لا مفرّ أمام نتنياهو وأركان حكومته الحربية إلا أن يقتبسوا مظهر الانتصار بمواقفهم النارية وتهديداتهم التي تتجاوز سقف توقعاتهم وأهدافهم الفعلية، خصوصًا أن الوقائع الميدانية والنتائج العسكرية التي تسفر عنها مجريات العدوان لا تظهر سوى مذابح مروّعة لم تشهدها أي حرب في التاريخ بغارات وحشية وقصف همجي يستهدف المدنيين والتجمعات السكانية، وهذا المعطى – بفعل صمود الشعب الفلسطيني - غير قابل للاستثمار في حسابات التفاوض الجارية في كواليس العواصم المعنية بإخراج التسوية. أضف إلى ذلك أن المقاومة الفلسطينية، وعلى رأسها حركة حماس، تثبت كل يوم علوّ كعبها وامتلاكها زمام المبادرة، وإتقانها في اصطياد الآليات والتجمعات العسكرية الإسرائيلية بعد استدراجها إلى المستنقع الغزّواي، ويجب ألا نغفل أن احتساب الغلبة في هذا السياق لا تدخل في معايير التوازن المنطقي، حيث لا مجال لقياس التكافؤ بين المقاومة والاحتلال، سواء على مستوى القدرات البشرية والحربية والاستخبارية والقدرة على التحرّك في المجال الجغرافي، والأهم من كل ذلك أن "إسرائيل" لا تخوض الحرب وحدها، حيث جنّدت واشنطن لها جسورًا غير مسبوقة من الدعم البشري واللوجستي والتقني والتذخيري، فضلًا عن مشاركة فرق عسكرية عديدة من دول أوروبية بشكل مباشر في المعارك.. من دون أن نغفل المرتزقة أيضًا.
انتصار حماس يعني سقوط "إسرائيل"
على الرغم من كل ذلك، استطاعت المقاومة الفلسطينية في الحد الأدنى أن تحبط الأهداف الكبيرة للعدوان التي يعلنها قادة الاحتلال، وهي سبق أن وجّهت في "طوفان الأقصى" أقسى الضربات المباشرة للعنفوان الصهيوني، فكيف وهي تحقق الإنجاز تلو الإنجاز كل يوم!! وهذا ما يؤرق واشنطن وتل أبيب خصوصًا، لأنه يشكّل العنصر الأساسي الذي سيُبنى عليه الانتصار الفلسطيني، وهو لن يكون انتصارًا آنيًا بنتائج مؤقتة أو ذا مفاعيل قابلة للمعالجة، بل سيكون الضربة القاضية التي تمهّد للسقوط التدريجي السريع لمشروع "الدولة اليهودية". ومن هنا تصبح المعادلة كالآتي: انتصار حماس يعني سقوط "إسرائيل"، مع ما يعنيه هذا السقوط من هيمنة قوى المحور والقضاء على مشروع الطغيان الأمريكي في المنطقة بأهدافه السياسية والأمنية والاقتصادية وغيرها. والسؤال: هل ستسمح واشنطن بسقوط "إسرائيل"؟! وكيف يمكن قراءة التهديدات المتصاعدة التي يطلقها نتنياهو وجوقته المجنونة بنقل الحرب إلى الجبهة اللبنانية؟!
نتنياهو المقامر
لقد دأب العدو، في معظم محطات الصراع مع المقاومة في لبنان وفي فلسطين، على توظيف الموقف الإعلامي في الحسابات الداخلية، رفعًا للمعنويات أو حفاظًا على التماسك أو صرفًا في البازار الانتخابي، إلا أن تفاصيل هذه المرحلة مختلفة عما سبقها، ولكن – كما أسلفنا – لا يملك مسؤولو العدو إلا أن يرفعوا سقف المواقف تماهيًا مع حرارة المجريات الميدانية، واستشعارًا بالخطر الحقيقي القادم، وهذا ما تعكسه الكثير من التحليلات العسكرية والإعلامية والسياسية التي تحذّر من مصير أسود ينتظر "إسرائيل" في حال استمرار هذه الحرب، وهي تحليلات لا تنطلق من فراغ أو من تقديرات افتراضية، فهي ترى أن نتنياهو يوصل بسياسته المتهوّرة "مشروع الدولة" إلى نقطة لا عودة عنها، وسوف يستدرج الطوفان الأكبر الذي سيأتي من جنوب لبنان، وليس أدلّ على ذلك تحوّل مستوطنات الشمال إلى مناطق مهجورة، حيث لن يستطيع المستوطنون العودة إليها طالما أن حزب الله ينتشر على الحدود ويده على الزناد، وبذلك فإنّ نتنياهو، بإصراره على المقامرة بمتابعة الحرب الهمجية، يخاطر بإضاعة كل المنجزات التي حُققت على مدى أكثر من سبعين عامًا.
حماس وحتمية الانتصار
من المؤكد أن واشنطن لا تسمح بسقوط "القلعة الإسرائيلية" التي جهدت في بنائها على مدى عشرات السنين، وعملت على تحصينها من خلال استدراج معظم العرب إلى خيار التسليم الطوعي والتخلّي عن قضية "الصراع العربي - الصهيوني" باتجاه التطبيع، ولكنها بذلك ستجد نفسها عالقة بين نار الابتزاز الإسرائيلي الذي يتعمّد توسيع حلقة النار لـ "توريط" حزب الله وإيران واليمن، تضطر فيها أمريكا إلى الدخول في أتون حرب شاملة مع احتمال تدحرجها إلى ما لا يحمد عقباه، وبين نار إيجاد تسوية شاملة لوقف الحرب بأي طريقة كانت، وإعادة ترميم مشروع "الدولة اليهودية" وتشكيل النظام السياسي في الكيان المؤقت، وهنا قد لا يستطيع العرب المطبّعون اجتراح أي مبادرة من دون أن يكون لحماس والمقاومة الفلسطينية الموقع المحوري الذي تحافظ فيه على قرارها ومؤسساتها السياسية وقدراتها العسكرية، حتى لو جاء الحل بحكومة فلسطينية جديدة أو متجدّدة، وفقًا لتعبير الرئيس الأمريكي جو بايدن، وهذا يعني انتصارًا جديدًا لن يقف عند حدود قطاع غزة وفلسطين المحتلة، بل سيكون انتصارًا لكل محور المقاومة والقوى التي دعمت وساندت "طوفان الأقصى".
* نقلا عن :موقع العهد الإخباري