زياد غصن*
منذ نكبة فلسطين في العام 1948، وربما ما قبل أيضاً، والصورة الذهنية المتشكلة في الوعي العام العربي أن الدول الغربية تعادي أو تقف عائقاً أمام إقامة دولة فلسطينية مستقلة لاعتبارات تتعلق بالوظيفة الأساسية التي أنشئ من أجلها الكيان الصهيوني في فلسطين، ذلك أن السماح بإقامة دولة فلسطينية، حتى لو كانت على حدود العام 1967، يعني عملياً دق أول مسمسار في نعش الكيان المغتصب. والدليل على ما سبق عشرات القرارات الأممية التي لم تنفذ، وآلاف المجازرر والجرائم التي لم تحاسب عليها "إسرائيل".
هكذا تعلمنا وتعلمت أجيال عربية كثيرة على مدار العقود الطويلة الماضية. ولذلك، فإن ما نسمعه يومياً من تصريحات لمسؤولين غربيين عن تأييد حكوماتهم إقامة دولة فلسطينية واستعداد تلك الحكومات للاعتراف الرسمي بتلك الدولة يجعلنا كمواطنين على الأرض العربية في مواجهة تساؤلات قد تعيد الإجابة عنها رسم ملامح أخرى لصورة الذهنية العربية حيال الموقف الغربي من الصراع العربي-الإسرائيلي.
ومن أهم تلك التساؤلات اثنان:
الأول يتعلق بمدى دقة الصورة الذهنية المتشكلة عبر عقود عن المواقف الغربية الرسمية والشعبية من القضية الفلسطينية في ضوء العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة.
الثاني يحاول تتبع حقيقة الأثر الذي أحدثه ذلك العدوان المستمر منذ السابع من أكتوبر الماضي، وآلاف المجازر والجرائم المرتكبة بحق المدنيين الأبرياء في قطاع غزة والضفة الغربية.
العرب... لا يريدون
في مقاربة الصورة الذهنية تلك، لا يمكن تناول جانب معين وتحليله بمعزل عن الجوانب الأخرى التي لا تقل أهمية وتأثيراً، فالموقف الغربي المؤيد والداعم لـ"إسرائيل" والمعادي في الوقت نفسه للحقوق العربية أمر لا يمكن لأحد إنكاره أو التقليل من شأنه في مسيرة الكيان الغاصب ونشأته على أرض فلسطين، حتى وإن تباينت مواقف وسياسات بعض الحكومات الغربية مرحلياً من خطوة إسرائيلية هنا أو هناك.
لكن في المقابل، فإن مسؤولية الأنظمة العربية عما وصلت إليه "إسرائيل" اليوم لا تقل أهمية وتأثيراً عما فعله الغرب، بل إن الأنظمة العربية هي التي شجعت الغرب على الاستمرار في تأييده الواسع للكيان الصهيوني.
لذلك، وقبل أن نسأل أنفسنا: هل الغرب يريد إقامة دولة فلسطينية؟ علينا أن نسأل ما هو أهم: وهل الأنظمة الرسمية العربية تريد ذلك أو تهتم به؟
بعيداً عن الخطابات السياسية الشعبوية والبيانات التي تعقب عادة الاجتماعات والقمم السياسية الرسمية، الثنائية والجماعية، فإن سياسات وإجراءات العديد من الأنظمة العربية حيال القضية الفلسطينية كانت تسهم على مدار العقود السابقة -ولا تزال- في عرقلة استعادة الفلسطينين لحقوقهم وتعزيز شوكة مقاومتهم للإجراءات الصهيونية، فضلاً عن تشجيع الحكومات الغربية على الاستمرار بتبني سياسات تدعم الكيان الصهيوني وغض الطرف عن جرائمه ومجازره وانتهاكه للقانون الدولي. ومن بين تلك السياسات والإجراءات يمكن أن نذكر على سبيل المثال:
- عدم التزام معظم الدول العربية بتنفيذ القرارات الصادرة عن القمم العربية، والمتعلقة بالقضية الفلسطينية، سياسياً كانت أم اقتصادياً أم عسكرياً أم ثقافياً، وآخرها القمة العربية الإسلامية المشتركة التي عقدت في العام الماضي على خلفية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة.
- المساعدات المالية المقدمة عربياً التي تعد في مجملها محدودة وخجولة وغير كافية لمواجهة إجراءات الاستيطان الصهيونية، وتمكين الأسر الفلسطينية من التمسك بمنازلها وأرضها وصون المقدسات الإسلامية والمسيحية، والرد على جرائم الاحتلال من قتل وتنكيل واحتجاز ونهب للمتلكات العامة والخاصة.
- تحييد الموقف من القضية الفلسطينية في توجهات بناء وتعزيز العلاقات الإقليمية والدولية للأنظمة العربية، إذ يلاحظ أن الدول الغربية الأكثر دعماً ومساندة لـ"إسرائيل" هي الأكثر حظوة بالفرص الاستثمارية المغرية في المنطقة العربية، فيما يحدث العكس تماماً مع الدول المؤيدة للقضية الفلسطينية، وهذا ما ينطبق أيضاً على التحالفات السياسية القائمة بين معظم الدول العربية والعالم الخارجي. وعليه، من الطبيعي أن تتشدد الحكومات الغربية في موقفها حيال "تل أبيب" ما دام ليس هناك من يردعها.
- فتح قنوات للتفاوض السري مع " إسرائيل"، ومن ثم توقيع اتفاقيات سلام منفردة معها، من دون ضمان أدنى التزام بتنفيذ "إسرائيل" القرارات الصادرة عن مجلس الأمن، والمتعلقة بانسحابها من جميع الأراضي العربية التي احتلتها عام 1967، بما فيها القدس، وضمان حق العودة للاجئين الفلسطينيين، بل إن بعض حكومات الدول العربية أخذت موقفاً "محايداً" من الصراع العربي الإسرائيلي، كما هو الحال في حرب تموز على لبنان، وفي العدوان على قطاع غزة خلال أعوام 2009 و2014 و2021 و2023. وبهذا، فقد كان من الطبيعي أن يستفرد الكيان المغتصب بالفلسطينيين وبما تبقى من دول عربية رافضة للتطبيع معه.
هذا هو الغرب
لم يكن الغرب يوماً -ولن يكون مستقبلاً- في موقع يعارض من خلاله "إسرائيل"، أياً كانت سياساتها وجرائمها ومجازرها، وما يحدث حالياً من تغير في لهجة الخطاب الغربي حيال حتمية إقامة الدولة الفلسطينية ليس سوى "انحناءة مؤقتة" أمام المتغيرات التي أحدثها العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة على صعيد تصاعد التأييد الشعبي العالمي الداعم لحق الشعب الفلسطيني في الحياة وإقامة دولته المستقلة، والمندد في الوقت نفسه بالجرائم والمجازر الصهيونية المرتكبة يومياً بحق المدنيين من أبناء قطاع غزة والضفة الغربية، وهي مجازر شكلت صدمة داخل المجتمعات الغربية التي شهدت عشرات ومئات التظاهرات الرافضة للعدوان رغم إجراءات الحظر الغربي الرسمي لأي شكل من أشكال التضامن مع الشعب الفلسطيني وضغوط اللوبي اليهودي، لكن ماذا لو كان الغرب جاداً فعلاً بالاعتراف بدولة فلسطينية؟
لا تختلف مواصفات الدولة الفلسطينية التي يمكن للحكومات الغربية أن تعترف بها عن تلك التي أنتجت السلطة الوطنية الفلسطينية، أي:
- دولة منزوعة السلاح غير قادرة على حماية نفسها بذريعة ضمان أمن "إسرائيل" التي تمتلك أكبر ترسانة من السلاح التقليدي والنووي في المنطقة.
- دولة خاضعة لهيمنة إسرائيلية تمنعها من السيطرة على مواردها وثرواتها واستثمارها وفقاً لمصالح الشعب الفلسطيني، والتحكم كذلك في علاقاتها الإقليمية والدولية.
- دولة تنهي كل الحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني من حق العودة إلى محاسبة مجرمي الحرب الإسرائيليين، فالتنازل على القدس والسماح بالسيطرة الإسرائيلية الفعلية عليها.
- دولة تفتح الباب أمام "إسرائيل" لتطبيع علاقاتها مع معظم الدول العربية، وفقاً لما صرح به المسؤولون الغربيون في أكثر من مناسبة. وللأسف، فإن العديد من الدول العربية تقبل بمواصفات وسمات مثل هذه الدولة لتنهي هاجساً مؤرقاً لحكامها منذ ثمانين عاماً.
هذه هي الدولة الفلسطينية التي يمكن للغرب أن يقبل ويعترف بها، وغير ذلك هو مجرد أضغاث أحلام لبعض المؤمنين بالديمقراطية الغربية، التي كان بإمكانها أن توقف دعمها العسكري واللوجستي لبضعة أيام فقط حتى تجبر "إسرائيل" على وقف عدوانها على قطاع غزة.... أو بالأحرى عدم التفكير فيه أصلاً.
* نقلا عن :الميادين نت