أحمد فؤاد*
لم تعد قصّة غزّة وحصارها الأنذل في التاريخ الإنساني ـــ المعروف لنا على الأقل ـــ تحتمل ترف الانتظار أو تملك قدرات ذاتية على تقديم الدم نيابة عن 430 مليون خامل نائم، والقلة الشريفة التي دخلت المعركة منذ لحظاتها الأولى هي الأخرى قدمت وتقدم الأعز فالأعز قرابينًا على طريق التحرير وفي ساحة الجهاد. لكن الكثير في العالم العربي لم يقدم شيئًا على الإطلاق، والأغلبية الساقطة تحت حكم يشابه "سلطة التنسيق الأمني"، في العواصم الكبيرة الراقصة، القاهرة وعمان والرياض وغيرها، حشدوا جهدهم لكي تنكسر المقاومة في غزّة بأي ثمن، وهم كانوا يريدون هذا الانكسار سريعًا ساحقًا، من فرط ثقتهم بشقيقهم الصهيوني.
وكي تكتمل قصّة غزّة ونزيف الخيانة المرير، كان لا بد من صورة تحمل هي بذاتها ولذاتها رمزية ما، شاهد الإدانة الأوفى والأرقى ضدّ الشعوب العربية المشاركة في هذه المأساة كلها، مشاركة بالعجز وبالغباء وبالطاعة، مشاركة بكلّ ما يجري طالما ترك الكيان وأميركا لهم فتات الموائد ليلعقوها، صورة الطفل الشهيد يزن الكفارنة هي اختبار ورقة عباد الشمس للشرف، بمعناه العام الواسع ومعناه الإنساني والشخصي جدًا، صورة الحقيقة العارية التي تصعق الكل وتفضح الكل أمام أنفسهم والعالم.
حالة الطفل يزن الكفارنة لم تكن الوحيدة. الطفل الذي فقد حياته في مستشفى أبو يوسف النجار في رفح بسبب سوء التغذية يستكمل حبات عقد التضحية الفلسطينية المستمرة، والتي لا تعرف حدودًا، في هذا اليوم الأسود. وصل عدد الأطفال المتوفين بسبب سوء التغذية وعدم توفّر العلاج إلى 16 طفلًا، كلّ منهم دليل إدانة، وفرصة أخيرة للتوبة، وإدراك أن ما يفعله الكيان الصهيوني في غزّة، لو أنه مضى إلى نهايته، سيعني نهاية مماثلة، وأول من سيكتوي بنيرانها هو الجار التافه الأقرب الذي احتاجوا بقاءه حتّى الآن صديقًا، وغدًا سيكون كبش المحرقة الجديد.
وأعترف بصدق، مع نفسي وغيري، أنه وبالرغم من يقيني المسبق بحقارة النظام المصري التي لا تعرف حدودًا، وسقوط مؤسساته وموظفيه، وخسة كلّ من يرى وجودهم طبيعيًا لا احتلالًا صهيونيًا عسكريًا مباشرًا لمصر، إلا أنني لم افترض في أسوأ خيالاتي الكئيبة أن يصلوا إلى منع نقط الماء عن غزّة، ليس لأن بهم بقايا كرامة وشرف، فهم لم يعرفوها في حياتهم، لكن لأن سقوط غزّة- لا قدر الله- وانفجار قنبلة سكانية أمام خيارات قتل وتجويع، سيتحمّل النظام المصري وجيشه مباشرة كلّ العوامل المترتبة عليه، حتّى لو كانوا قد دخلوا حربهم على المقاومة ــ كالعادة ــ بلا تخطيط ولا إدارة ولا عقل، وإنما اندفاع أحمق أمام تلبية الرغبة الأميركية لإثبات أهمية التابع المصري الذي حصل في هذه المرة على 35 مليار دولار من الإمارات مكافأةً للخدمة، تساعده في تثبيت وضعه الداخلي المهتز.
اليوم؛ بات انكسار المقاومة للأنظمة الحاكمة ضرورة حياة أو موت، باتت المعركة حقًا خالصًا وحقدًا كاملًا، وهذه المعركة على أبواب شهر رمضان المبارك بما تعنيه من انتقال وتكثيف الاهتمام والتفاعل الشعبي الذي بدأ فعلًا يخرج من دائرة القمع، ويجرب طرقًا جديدة في الاعتراض، حتّى لو كانت حتّى اللحظة أقرب للانتحار المجاني، لكنّها قادرة على استثارة المزيد من طلاب الحق، ودفعًا لإمكانات الخلاص من كابوس الجنرال الغبي، في القاهرة بالذات، وهي ككل فعل شعبي مصري تغذيها باستمرار عوامل القمع ولا تمنعها، وتزيد من وتيرتها، حتّى لحظة انفجار، يكون قد أفلت فيها كلّ شيء من أيدي الحاكم بقهره وجيشه وأمنه في مصر.
على عكس ما تقوله السردية الإعلامية لجيش كامب دايفيد، فإنّ انخراط مصر في الصراع العربي ــ الصهيوني، وفّر لها أكثر ممّا تكبدته، وأنه حتّى ما تكبدته كانت تدافع فيه عن أرضها ولم تكن ــ لا سمح الله ــ تهاجم أصلًا، ولم تكن ــ لا سمح الله ــ تتبنّى خيار التحرير الكامل للأرض، بل لم يكن وعيها يستطيع تصور مواجهة كبيرة مع الولايات المتحدة من الأصل والأساس، ولعلّ التصفيق الذي قوبلت له كلمات أحد "أراجوزات" كامب دايفيد، السادات، في مجلس شعبه حين قال: "أنا مش هحارب أميركا، هو إحنا قد أميركا"، تلخّص حال البلد التي ظلت على مدى نصف قرن كئيبة تدمن التراجع العاجز المساوم والمستمر، حتّى صارت مثلًا لدولة أضاعت كرامتها، ثمّ كان بيع كلّ شيء ـــ وأي شيء ــ بعدها منطقيًا سهلًا، وأنها بلغت حالًا من الارتخاء والعجز؛ حيث لا تسيطر على معبر بري يقع بالكامل داخل أراضيها، ثمّ يخرج وزير خارجيتها "سمحون" شكري ليقول إن مسؤولية المعبر لا تقع على مصر، وصدق، فالمسؤولية الدينية والإنسانية وقضية فلسطين الشريفة لا تقع على نظام من الساقطين، مهما كانت أسمائهم أو مسميات وظائفهم لخدمة الكيان وواشنطن.
المفروغ منه أن غزّة مع المقاومة، وبالدعم والإسناد الشريف الذي تقدمه جبهات العز، في جنوب لبنان والعراق وسورية واليمن، لن تسقط، وليس هناك احتمال بأنها ستسقط، وبعد 151 يومًا من القتال خلال معارك مباشرة ويومية وعلى مدار الساعة، من حيّ إلى حيّ ومن باب إلى باب، ومع قوة نار تبدو جوارها حروب العراق ويوغسلافيا صورًا فوتوغرافية باهتة، فإنّ العدوّ لم ينجح خلال 150 يومًا في أسر مجاهد واحد حيّ.
لكن هل هذه هي نهاية الحكاية بالنسبة إلى مصر؟!
خلال أسبوع واحد، هو الأخير من الشهر الخامس للمأساة الإنسانية الخالصة التي تجري في غزّة، وبفعل المشاركة المصرية الرسمية في الحصار، وما هو معروف بالضرورة من هوى النظام الحاكم وعلاقاته الحرام مع حكومات العدو، واستعداده الدائم لتقديم فروض الولاء والطاعة لها، وكراهيته وسواد قلبه تجاه فكرة المقاومة بحد ذاتها، والنقص الذي يعانيه مقابلها، خرجت في مصر مسيرة صغيرة لصحفيات يهتفن على سلم نقابتهن العريقة، بالرغم من حملات الترويع والقبض خارج القانون لتهمة رسمية هي "التضامن مع فلسطين". لم تمنع القرود خروج شرطي شريف آخر، أمين الشرطة عبد الجواد محمد، ويعمل بقوة شرطة كرموز بالإسكندرية بوزارة الداخلية، بعد أن تسلق لوحة إعلانات ضخمة في ميدان سيدي جابر في المحافظة الساحلية، وتجرّد من ملابسه الرسمية معلنًا التبرؤ منها، ورفع علم فلسطين، ووصف عبد الفتاح السيسي بالخائن والعميل، بالطبع تدخلت الشرطة "الوطنية جدًا" واعتقلت البطل بعد اعتداء جسدي وحشي عليه، وإلى الآن لمّا يعرف مصيره بعد، وفقًا لبيان الشبكة المصرية لحقوق الإنسان، إذا كان فعل الأغلبية مجرمًا بادّعاء العجز أو بابتلاع روايات المؤامرة البلهاء للنظام الأبله، فإنّ انعكاس مشاعر ما يحدث في فلسطين اليوم على الناس، ووصولها للحظة يأس من الوضع المصري كله، بإمكانهما مشاعر العجز ويقين اليأس من أن يوصلا الأمور إلى انفجار. لم يستطع ديكتاتور أن يحكم شعبًا، بكلّ هذا الغباء والفشل الأسطوري إلى الأبد، ومهما بدا عنف القبضة العسكرية المسلّحة للنظام، فإنّ خروجًا كبيرًا سيعني مباشرة أننا ــ العرب ــ ربحنا معركة التحرير في القاهرة.
* نقلا عن :موقع العهد الإخباري