الدكتور محمد البحيصي*
مشكوراً طلب الأخ والصديق السفير الإعلامي المثقف والمجاهد الأُستاذ عبدالله علي صبري، منِّي أن أقدِّمَ قراءةً لكتابه القيِّمِ الصادر عن اتّحاد الكتاب العرب بدمشق هذا العام والموسوم بـ (الجهاد الأمريكي... من كابول إلى إسطنبول).
ولا أراه سهلاً أن تتحدثَ في زمن قدرُهُ نصفُ ساعة هي الفترة الممنوحة لي لتقديم الكتاب عن عمل أخذ من صاحبه شهوراً ولربّما أكثر وبالذات في مثل هذا العنوان الذي يرجعنا إلى الوراء عقوداً هي في عمر المنطقة وحوادثها كانت الأصعب والأكثر ألماً وأثراً على المنطقة سياسيًّا وفكرياً واجتماعياً وثقافيًّا واقتصاديًّا وصلت إلى حَــدِّ إغراء صنّاع السياسات في الغرب وبالأخص في الولايات المتحدة الأمريكية، بأن يضعوا خططاً تستهدف إعادة رسمها بعد تفكيكها على أسس عرقية أثنية ومذهبية طائفية، وتحويلها إلى ساحة للحروب الهجينة التي لا تنتهي بين مكوناتها التي تعايشت فيها أحقاباً قبل أن تصل إليها الغزوة الغربية الأخيرة التي مثل (الكيان الصهيوني) رأس حربتها، وحيثُ لم يعد الكيان قادراً على أداء وظيفته على النحو الأمثل أَو المطلوب منه؛ باعتبَاره كياناً وظيفياً يخدم المشروع الاستكباري الغربي، فقد عمد أرباب هذا المشروع على إيجاد أدَاة أُخرى تستكمل وظيفة الكيان في تدمير المنطقة وتفكيكها، ولعلّها كانت مرشحة لأن تكون الأكثر قدرة على النجاح في هذه الوظيفة، وأعني بهذه الأدَاة "الحركات التي رفعت شعار الجهاد" باسم الإسلام من القاعدة وحتى داعش، وهي التي مثّلت الوجهَ الآخرَ للحركة الصهيونية وأحدَ مراحلها الفاعلة في بلادنا.
ولعليِّ أزعُمُ أن الكاتبَ قصد من مؤلَّفه الذي بين أيدينا هذا المعنى الذي كثّـفته في هذه السطور.
لا سيَّما أن الكاتب نفسه قد كان وأسرته ضحيّةً من ضحايا هذه الأدَاة، حَيثُ استشهدت والدته واستشهد ولديه في قصف إرهابي تعرّض له بيته في صنعاء جراء غارة جويّة بطيران أمريكي وطيار سعوديّ ولربمّا كان يهودياً وليس هذا ببعيد، في حين يرزح بلده اليمن تحت عدوان وحصار إجرامي إرهابي منذ ثماني سنين ونيِّف، من ذات القوى التي أنتجت الإرهاب وسوَّقته ورعته واستخدمته.
ومن هنا ندرك أهميّة أن يأتيَ هذا الكتاب من مثل سعادة السفير وأن يكون الإهداء لهؤلاء الشهداء ولكل شهداء اليمن العزيز.
- تضمن الكتاب مقدمة وأربعة فصول وختم بمرافعة حول حرَّية العقيدة.
في المقدمة طرح الكاتب مجموعة من الأسئلة التي فرضت نفسها على واقع الأُمَّــة فيما يتعلَّق بالإرهاب والتطرف الذي نسب زوراً وبهتاناً إلى الإسلام من حَيثُ نشأته والمناخات الدولية والإقليمية التي صنعت هذا الوحش ليكون أدَاةً طيِّعةً في خدمة الأجندة الغربية.
وما هي قصة الجهاد في أفغانستان، وحكاية القاعدة وطالبان والمجاهدين العرب الذين صاروا في نظر رعاتهم بعد انتهاء مهمتهم مُجَـرّد إرهابيين منتشرين هنا وهناك يتنقلون بمسمّيات وصلت إلى "داعش" التي أقامت دولتها في غفلة من الزمن (بحسب الكاتب) وكيف سقطت، وبأي ثمن.
ولا تزال الأسئلة تتوالد لدى الكاتب في حقول الألغام التي زرعت في غير مكان من بلداننا، ومنها علاقة تركيا بالإرهاب في سورية، وبالإخوان المسلمين، وبرعاية ما سُمَّي بـ (الربيع العربي) والانتقال من سياسة تصفير المشاكل إلى قاعدة اختلاق المشاكل، حتى باتت هي نفسها في وضع لا تحسد عليه وبالأخص بعد الانتصارات التي حقّقها الجيش العربي السوري والجيش والحشد العراقي والتي أَدَّت إلى سقوط الخرافة الإرهابية في كلا البلدين.
ويذهب الكاتبُ إلى أن المعركة على الإرهاب وإن كانت قد حُسمت في سورية والعراق عسكريًّا، إلا أن هذا الحسم يظل مؤقَّتاً ما لم يتم رفدُه بمعالجات فكرية، تلاحق جذور التكفير والإرهاب وتعمل على استئصاله من خلال الفكر المستنير والرؤية العقلانية لمفهوم الجهاد الذي تمنطقه مختلف الجماعات الإرهابية، وهذا يستدعي الغوص في جذور التكفير الإرهابي مع الإقرار بأن معركة الأفكار أكثر تعقيداً بعد تغلغل المنهج السَّلفي التكفيري في الثقافة الإسلامية، وقدرته على كسب المزيد من الشباب مستفيداً من تفاقم معَّدلات الفقر والبطالة وفشل الدول والجماعات السياسية في إدارة الصراع على السلطة والثروة، وعجز الاقتصادات عن تحقيق الحد الأدنى من الاستقلال والاكتفاء الذاتي، مع إقرار الدور الاستخباراتي في المنطقة إبان الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتّحاد السوفيتي وترويج المفاهيم المناهضة للشيوعية، وُصُـولاً إلى سقوط الإمبراطورية السوفيتية وتفرد الولايات المتحدة بقيادة النظام العالمي الجديد أحادي القطبية، وحتى أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 وكيف اتخذت الحرب على الإرهاب شكلاً إرهابياً ضد الإسلام والمسلمين مما منح جماعات التكفير شعبيّة كبيرة في الشارع العربي والإسلامي.
وهنا يشير الكاتبُ إلى أن "إدارة التوحش" وهي الدليل النظري لـ "داعش" مثلت الترجمة الحرفية لمفهوم "الفوضى الخلاقة" الذي أطلقته الإدارة الأمريكية وهي تبشَّر العرب والمسلمين بالشرق الأوسط الجديد...، وينهي الباحث مقدمته بوجوب ضبط مفاهيم الجهاد والحرب والقتال والردَّة وفقاً للمرجعية القرآنية والتجربة النبوية في مكة والمدينة، واستناداً إلى حاجة البشرية إلى علاقات تقوم على السلم والتسامح وتبادل المصالح، مؤكّـداً على أن الأُمَّــة العربية بإمْكَانها استلهام تجارب النهوض في الشرق والغرب واستعادة دورها الحضاري الذي قد يغير موازين القوى في العالم حال حدوثه ويجتاز بذلك السؤال القديم الجديد:
لماذا يتخلَّفُ العربُ ويتقدَّمُ غيرُهم؟!
• الفصل الأول:
عنون الكاتبُ فصلَه الأوَل بـ (سورية بين داعش وتركيا) متناولاً عدةَ عناوينَ أولها: عشرية الدم وبداية ما سُمَّي بـ (الربيع العربي) وكيف غدت سورية ساحة مفتوحة تشكلت فيها خارطة متشابكة معقدة من التنظيمات المسلحّة المدعومة من الخارج؛ بهَدفِ إسقاط الدولة السّورية فضلاً عن استهداف الرئيس بشار الأسد، بعد أن أغراها ما حدث في تونس وليبيا ومصر... إلخ.
وعلى إثر ذلك كان تدخل حزب الله اللبناني مع إعلان السيد حسن نصر الله في مايو/أيار 2013 وبالتزامن مع بدء معركة القصير، دخول الحزب على خط الاشتباك العسكري في سورية؛ باعتبَارها "ظهرَ المقاومة وسندَها" وأن المقاومة لا تستطيع أن تقفَ مكتوفة الأيدي وتسمح للتكفيريين بكسر عمودها الفقري ثم كان الوجود الإيراني على شكل مستشارين، ثم كان التدخل الروسي في 30/ سبتمبر/ 2015 بعد أن اتضح حجم الاستهداف الغربي وعلى رأسه أمريكا وشركاؤها في المنطقة مثل تركيا وقطر والسعوديّة والإمارات... إلخ.
مما استوجب أن تستثمر دمشق علاقاتها التاريخية بروسيا الاتّحادية في صد التنظيمات الإرهابية العابرة للحدود والحفاظ على استقرار الدولة وأمن المجتمع، فيما وصف البعض ذلك التدخل بعودة نظام الحرب الباردة القائم على التنافس والنزاع بين القطبين الروسي والأمريكي على المصالح في المنطقة وأهمها: منابع النفط وأمن "إسرائيل" وطرق المواصلات والملاحة العالمية.
والحقيقة أن روسيا استفادت من شعارات محاربة "داعش" ومن التوجّـه الأمريكي حينذاك نحو الانسحاب من الشرق الأوسط وانشغال واشنطن بالتنافس الانتخابي، والمفاوضات الإيرانية مع الدول (5+1) بشأن الملف النووي فاندفعت إلى ملء الفراغ في المنطقة عبر البوابة السورية.
أما المقاومة الفلسطينية فقد كانت ولا تزال ترى في سورية الأرض الخصبة والموقع المثالي للمقاومة وأن فشل الدولة السورية بما تمثله من موقف من القضية الفلسطينية يصب تلقائياً في مصلحة "إسرائيل".
- العنوان الثاني كان "خريف إسطنبول"، وفيه تحدث الكاتب عن النشوة التي أصابت تركيا والإخوان المسلمين بعد استوائهم على ظهر السلطة في مصر وتونس واليمن وحتى الوزارة في المغرب، وظهر وكأنّ دولة "الخلافة" باتت في متناول اليد وكانت "سورية" (الصيدة) الكبيرة التي ينتظر الإمساك بها ليدخل "أردوغان" دمشق فاتحاً ويصلي في الجامع الأموي.
ومن هنا فتحت تركيا أبوابها وحدودها التي تزيد عن ثمان مِئة كيلو متر لكل قطعان التنظيمات التي اجتمعت لمهاجمة سورية، إضافة إلى عمل المخابرات الدولية وبالذات (الأمريكية والإسرائيلية) على دعم الإرهاب مما سمح بولادة داعش وتمدده في سورية والعراق، وقد لعب الإعلام دوراً مهماً في الترويج لهذه الحرب الكونية على سورية وإزاء صمود سورية قيادة وجيشاً وشعباً كان على أردوغان والإخوان أن ينتظروا طويلاً قبل إعلان فشلهم وانقلاب السحر على الساحر.
- ويعد العنوان الثالث امتداداً لسابقه، حَيثُ تم التركيز فيه على الأحداث التي وقعت في تركيا كارتدادات لما كان يجري في سورية، حَيثُ تعرضت تركيا لعدة عمليات إرهابية؛ مما أثَّرَ سلباً على الاقتصاد التركي، وتصاعد التوتر مع روسيا، وتزايد الخلاف مع أمريكيا؛ الأمر الذي جعل تركيا (كما يقول الكاتب) مهيّأةً لانقلابٍ يستثمرُ كُـلَّ هذه الإحباطات ويقدم نفسَه بديلاً للنظام الحاكم، هذا الانقلابُ الذي نسبته الروايةُ الرسمية التركية إلى جماعة "فتح الله غولن" المقيم في أمريكيا، بينما ظل الباب مفتوحاً لمختلف التساؤلات حول، من يقف وراء الانقلاب الذي فرض على تركيا جملة من التحديات الداخلية والخارجية، حَيثُ لم يقف إلى جانب حزب العدالة في الساعات الأولى للانقلاب سوى عدد محدود من الدول ومنها إيران وقطر، في مقابل تحالف الضد الذي كان يضم السعوديّة والإمارات ومعهما مصر والبحرين، إضافة إلى توتر العلاقات مع أمريكيا إلى حدوده القصوى، وهو ما قاد تركيا لمزيد من التقارب مع روسيا وإيران وانعكس ذلك على موقفها من الأزمة السورية من خلال التفاهمات بين (تركيا وإيران وروسيا).
- ويختم الكاتب فصله الأول بعنوان "وانتصرت سورية " تحدث فيه عن الحرب الاقتصادية على سورية وموقع حلب المركزي من هذه الحرب؛ باعتبَارها المحافظة الأولى اقتصاديًّا على مختلف الأصعدة وساق بعض الأرقام لتعزيز ما ذهب إليه، وكيف أن سورية استطاعت إغلاق ملف الديون الخارجية بشكل نهائي في العام 2010م.
وكانت معركة تحرير حلب أولوية بالنسبة للقيادة السورية لما يترتب على ذلك من تداعيات، وقد تحقّق ذلك في العام 2016، حَيثُ شبه البعض معركة حلب بمعركة ستالينغراد التي أسقطت أحلام النازية في أُورُوبا، بينما قضى انتصار حلب وتحريرها على دولة داعش، وقطع الطريق على أحلام أردوغان في تقسيم سورية.
• الفصل الثاني:
الفصلُ الـ2 من الكتاب بعنوان: "خيوط الظلام" وقد خصّصه الكاتب بعناوينه الأربعة للحديث عن الدّور الأمريكي والسعوديّ والباكستاني في نشأة التنظيمات الإرهابية وأثر الفكر الوهَّـابي في مناهجها وسلوكها، ومسارات تخلق التنظيمات الإرهابية والجهاد والتكفير، معتبرًا أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر2001 مثلت منعطفاً مهماً في علاقة الولايات المتحدة الأمريكية بالعالم، ومستفيداً من قراءة الصحفي الراحل محمد حسنين هيكل لهذا الحدث في كتابه "الزمن الأمريكي... من نيويورك إلى كابول" والتي ذهب فيها إلى عمق الارتباط الاستخباراتي بين الولايات المتحدة وتنظيم القاعدة وأنه أكبر من مُجَـرّد الالتقاء على عداوة الاتّحاد السوفيتي واستغلال الساحة الأفغانية، وأن صناعة الوحش قبل التخلص منه جرت بحرفية عالية وباشتراك ثلاث دول إسلامية كبرى وهي: مصر والسعوديّة وباكستان، واقتضت الخطة توريط الاتّحاد السوفيتي في أفغانستان سنة 1979، ومن ثم تشغيل عناصر المقاومة الإسلامية في تأمين الغطاء الفكري والعسكري واللوجستي للجهاد الإسلامي ضد الشيوعية الملحدة، وكلّ هذا بإشراف أمريكي وبتفاصيل كثيرة نجحت في صرف المجاهدين عن "فلسطين" ومواجهة الكيان الصهيوني ووجهّتهم نحو حرب استنزاف للاتّحاد السوفيتي... لقد اتخذّت الولايات المتحدة الأمريكية أحداث الحادي عشر من سبتمبر/2001 ذريعة لاحتلال كُـلٍّ من أفغانستان والعراق؛ بحجّـة محاربة الإرهاب متخذة من ورقة الإرهاب فزّاعة لزعزعة أمن واستقرار الكثير من الدول العربية التي استهدفها المشروع الصهيوأمريكي تحت عنوان التغيير والديمقراطية والإصلاح السياسي، وبحسب ما ذهب إليه الكاتب فَــإنَّ الولايات المتحدة تركت للقاعدة وداعش مهمة نشر الفوضى في الدول المستهدفة وإلى جوار فكرة "الفوضى الخلاَّقة" أعلنت داعش عن نظرية "الإدارة المتوحشة" كمرحلة تسبق وتهيئ لقيام دولة الخلافة، وأصبح كتاب "إدارة التوحَّش" أخطر مرحلة ستمر بها الأُمَّــة "للمدعو أبو بكر ناجي" بمثابة الدليل النظري الذي سار عليه تنظيم داعش في إعلان وإدارة دولته في العراق وسورية، ويقصد بإدارة التوحش: خلق منطقة خالية من إدارة وسلطة وقوانين الدولة لتعم فيها الفوضى والقتل والرعب، أَو الاستيلاء على مناطق تعرَّضت للفوضى وإدارتها بالعنف، وسيضطر الناس للقبول بهذه الإدارة كبديل وحيد عن الفوضى والخراب.
ويستعرض الكاتب تحت عنوان إدارة التوحش مقولات ومرتكزات هذه النظرية وكيف أنها تتعارض مع حقيقة مفهوم الجهاد القتالي في الإسلام، وهو ما بحثه بعد ذلك في الفصل الرابع.. وهنا يصل الكاتب إلى لب استعراضه لمسيرة التنظيمات الإرهابية مبتدئاً من تخلقها على المستوى الفكري، وُصُـولاً إلى القاعدة ودولة داعش، وما بين الفكرة والدولة الآفلة حديث عن النشأة والأفكار والممارسات وقد أكّـد على مسألة في غاية الأهميّة تتعلق بظهور الأفكار المؤسّسة للتطرف وذلك حين اعتبر أن النظم الاستبدادية العربية ذات الطبيعة الشمولية التي قضت على حركات التحرّر الوطني ومنجزاتها، ورهنت مجتمعاتنا للسيطرة والتدخلات الأجنبية، وفشلت في بناء اقتصادات وطنية كما فشلت في تحقيق العيش الكريم للمواطن الذي لم يضمن الحد الأدنى من الحقوق والحريات الإنسانية، هذه النظم لعبت دوراً مساعداً في ظهور أفكار التطرف والإرهاب في عالمنا العربي تحديداً، إضافة للصراع القومي الإسلامي، والاستقواء بالسلطة وتراجع وانهيار المشروع القومي العربي منذ التوقيع على اتّفاقية كامب ديفيد بين مصر "وإسرائيل" في (سبتمبر/أيلول 1978)؛ وهو ما جعل الشباب العربي يلجؤون إلى الأصولية الإسلامية؛ باعتبَارها ملاذاً بديلاً للفراغ وللخروج من هذا الوضع البائس، لا سِـيَّـما وأن الخطاب الديني والتاريخي تتوفر فيه عوامل الجذب ويفتح باباً كَبيراً للأمل... ولو إلى حين... والحقيقة أن هذا الطرح كَثيراً ما يتهرب منه الكتاب والباحثون في هذه القضية، الشيء الذي لا يسهم في فهم وتشخيص الظاهرة لا على المستوى النظري ولا على المستوى العملي.
ويستعرض الكاتب باختصار ورشاقة التطور الحركي والتنظيمي للحركات التكفيرية، والركائز الفكرية لهذه الحركات ونماذج من فتاوى مراجع الحركة الوهَّـابية في مسائل التكفير والبدعة والحلال والحرام والظواهر الكونية والموقف من أهل الكتاب من اليهود والنصارى، والموقف من أصحاب المذاهب الأُخرى من المسلمين.
• الفصل الثالث:
يأخذنا الكاتب إلى جولة في ميدان الجهاد المفترَى عليه كما وصفه، ليحدثنا عن الجهاد في الإسلام كيف نفهمه وكيف نمارسه، وشبهات الجهاد القتالي، والإسلام شريكاً، وثقافة المشترك.. وكيف التبس مفهوم الجهاد عند الكثيرين، وغدا مصطلحاً فضفاضاً قاد إلى أن يقتل المسلم أخاه المسلم وهو يظنَّ أنه يتقرّب إلى الله بذلك الفعل الشنيع المخالف لنصوص الشريعة ومقاصدها وسعتها ورحمتها.
وحسناً فعل الكاتب حين اتخذ من كتابات الشهيد العلّامة محمد سعيد رمضان البوطي، الذي استشهد في مارس/ آذار 2013 وهو يجاهد بلسانه وقلمه وفكره في سبيل إبراز حقيقة الجهاد، ووجوب صون حقن دماء إخوة الوطن الواحد، ونقل عن كتابه الموسوم بـ"الجهاد في سبيل الله كيف نفهمه وكيف نمارسه" جوهر حقيقة التفريق بين مفهومي الجهاد والقتال الذي قدّمه الغلاة التكفيريون بشكل مشوّش يخدم انحرافاتهم الفكرية، ويخدم رغبات السلاطين، وهنا يبيّن الشهيد العلّامة علّة قتال المشركين والكفّار وكيف أنّ الشرك والكفر ليسا هما الحامل على قتالهم وقتلهم وأنّ علّة الجهاد القتالي هي درء الحرابة، وأنّه قد يحل قتال الرجل ولا يحل قتله..
وأنّ الجهاد بالدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الأصل، بينما الجهاد القتالي فرع منه، وأنّ شرائع الجهاد متعدّدة ولكل منها حالاتها وظروفها الملائمة، وأنّ الغاية منها هو الوصول إلى الحق وإيصال الآخرين إليه، حَيثُ لا يمكن الوصول إلى الحق عبر الإكراه..
وعلى كُـلّ ما ذُكر وغيره يستدل العلّامة الشهيد بأدلّة من القرآن والسنّة وأقوال أهل العلم..
وفي هذا الفصل يردّ الكاتب على شبهات الجهاد القتالي مستحضراً ما ذكره المفكّر جمال البنا، في كتابه "الجهاد" الذي خلص فيه إلى أنّ صورة الحروب على المشركين في العهد النبوي طغت على بقية صور الجهاد، وحين ظهرت المذاهب كانت الأُمَّــة في أوج قوتها، ممّا جعل الفقهاء يخلطون بين بواعث الجهاد والقتال، ما جعل العالم بنظرهم ينقسم إلى دارَينِ لا ثالث لهما: دار إسلام ودار كفر، وهذا إن كان له في الماضي ما يسوّغه إلّا أنّ الواقع ومقاصد التشريع لا تقرّه ويبقى الأصل أن يكون بين المسلمين وغير المسلمين "تعايش سلمي قائم على الأمن والطمأنينة بين الطرفين".
ومن هذا الفهم أسّس الكاتب لمقولة "الإسلام شريكاً" في مقابل "الإسلام عدوّاً"، "والإسلام إرهاباً"، وغيرها من المصطلحات الضّاجة بالكراهية للإسلام والمسلمين في المجتمعات اليمينية العنصرية الغربية التي تؤمن بنظرية صراع الحضارات والمواجهة المُستمرّة مع الشرق وخَاصَّة الشرق الإسلامي، مع الاعتراف بأنّ هناك أصواتاً معتدلة تندّد بالتطرّف والعنصرية تجاه الآخر، وتنبّه إلى خطورة الأكذوبة التي راجت في الغرب منذ تسعينيات القرن الماضي وقدّمت الإسلام –بعد تفكّك الاتّحاد السوفييتي- على أنّه العقبة الكُبرى أمام السلام العالمي، والخطر الأكبر الذي يهدّد ما يُسمى بالعالم الحر، ومن هؤلاء المعتدلين يختار الكاتب المستشرق الألماني (فريتش شتيبات) العالم والباحث في العلوم الإنسانية والتاريخ العربي والإسلامي، وهو واحد من أهم الذين عارضوا وفندوا أُطروحة (صموئيل هنتنغتون) حول صدام الحضارات واعتبرها الوقود الذي يحرّك التطرّف والتطرّف المضاد، وعلى العكس من ذلك فقد فسّر شتيبات العوامل والعناصر التي وقفت خلف الإحباطات التي تخلّقت في ظلّها "الأصولية الإسلامية" وخلص إلى أنّ الإسلام لا يمثل أي تهديد للعالم بل العكس من ذلك هو الصحيح، كما قدّم شتيبات رؤيته في شكل الدولة الإسلامية، وأن شكلها تُرك للناس كمسألة اجتهادية متروكة لمتغيرات الزمن، وينهي الكاتب هذا الفصل بعنوان "ثقافة العيش المشترك" بيّن فيه أنّ السلام هو الأصل والقاعدة، وأنّ هذا السلام لا يتحقّق إلّا في المجتمع الذي يقوم على التسامح، واحترام الآخر، ونبذ الغلو والتعصّب، ويحتكم في إدارة اختلافاته إلى آليات عقلانية وقواعد تنظيمية ومعيارية تحترم إنسانية الإنسان.
ويأسف الكاتب على أنّ المعركة مع الإرهاب لا تزال تدور خارج فلك (الأفكار) الأمر الذي يطيل من عمر الإرهاب وأدواته، ذلك أنّ جذور الإرهاب كانت وستبقى فكرية، وأنّ المعركة معه تتطلّب إعمال قيمة التسامح فكرةً وسلوكاً بغض النظر عن جدلية من يسامح من؟؛ لأَنَّ الاختلاف والتنوّع وفقاً للرؤية القرآنية حالة طبيعية منذ خلق الله الخلق، ولا بدّ من الاعتراف والتسليم بهذه الحقيقة، ولا يتصوّر عاقل أنّه بالإمْكَان إزالة حالة الاختلاف التي تمنح كُـلّ مجتمع خصوصية وهُــوِيَّة تميّزه عن غيره، مع التأكيد على ضرورة عدم الانغلاق على الهُــوِيَّة بدعوى وهم التفرّد الذي جرّ العالم إلى الكثير من الويلات والنزاعات.
• الفصل الرابع والأخير:
من فصول الكتاب جاء بعنوان: "مدخل إلى جهاد التنمية"، وفيه استعرض الكاتب (النهضة اليابانية المعاصرة والدروس المستفادة عربياً) وهو عنوان كتاب للمؤرخ والمفكّر العربي مسعود ظاهر، الذي أتيح له فرصة التعرّف على الواقع الياباني من داخل اليابان ذاتها، وقارن في كتابه بين التجربة العربية وبالأخص تجربة محمد علي باشا في مصر، وبين التجربة اليابانية، وكيف استطاع اليابانيون تحقيق الشعار الملهم للنهضة والتحديث: (تكنيك غربي وروح يابانية) دون الاعتماد على جهة غربية واحدة؛ كي لا يقعوا في فخ الاقتباس والتقليد وفي علاقات تبعية للغرب، حَيثُ أدرك اليابانيون منذ وقت مبكّر خطر الاستعمار الأجنبي وخطورة الاستنجاد بالقوى الخارجية لحسم الصراعات الداخلية..
ويذكر الكاتب أنّ أبرز مظاهر قوة النموذج الياباني تتمثّل في ثلاثة عناصر:
كثرة ساعات العمل.
وفرة الإنتاج.
جودة السلع القادرة على المنافسة.
إضافة إلى ترسيخ القيم العُليا في المجتمع ومنها: قيمة العمل والإنتاج واحترام الكفاءة الشخصية كقاعدة وحيدة للتوظيف والترقّي الإداري، وترسيخ التقاليد والثقافة الشعبيّة التي تحبّذ شراء السلع الوطنية وليس الأجنبية..
كما أنّ التجربة اليابانية خلال مرحلة النهضة تميّزت بالاستقرار السياسي والاستقرار الإداري؛ فاليابانيون يفضّلون مصطلح التغيير أَو الإصلاح على مصطلح الثورة أَو الانقلاب، حَيثُ النهضة من منظور ياباني هي فعل تغيير جماعي تتعاون فيه القوى الفاعلة على إحداث تبدّلات جذرية ومُستمرّة، تنقل المجتمع القديم من دائرة الخوف من كُـلّ ما هو جديد، إلى دائرة المشاركة في التحديث، ومن هنا نفهم كيف تمّت عملية انتقال الحكم من أسرة (توكاغاوا) إلى الإمبراطور (مايجي) عبر توافقات سلمية، وكيف حوّل الشعب الياباني الهزيمة في الحرب العالمية الثانية إلى انتصار بعد تنازل الإمبراطور عن صلاحياته المطلقة لصالح الشعب الذي انخرط بهمة ووتيرة عالية في تجربة التحديث السلمي..
- وحول سؤال التنمية الاقتصادية عربياً وعلاقة ذلك بجهاد التنمية الذي يقترحه الكاتب حلّاً مزدوجاً لإشكالية التطرّف والإرهاب من جهة، ولأزمة التخلّف الاقتصادي العربي من جهة أُخرى يعرض الكاتب بلغة الأرقام بعض المؤشرات المتعلقة بالتنمية الاقتصادية، حَيثُ الدول النفطية التي تتمتّع بحالة من الاستقرار السياسي والاقتصادي في مقابل أكثرية عربية تعيش أوضاعاً متدهورة، إضافة إلى الانقسامات الداخلية بين الريف والحضر، وكذلك مستوى دخل الفرد السنوي، ومؤشرات البطالة والفقر، والأمّية، والتعليم.
وينهي الكاتب هذا الفصل بالحديث عن حدود جهاد التنمية الاقتصادية كحجر أَسَاس للنهضة العربية، وضرورة مغادرة ثقافة الاستهلاك واستبدالها بثقافة إنتاجية محمولة على ثقافة دينية تعيد قراءة المفاهيم الإسلامية في ضوء المشكلات والمتغيرات المعاصرة، من منطلق أنّ العلّة التي نشكو منها ليست في الإسلام نفسه بل هي في الفهم السائد للإسلام ولرسالته الحضارية، وعليه فلا مناص من إعمال الجهاد بمفهومه الحضاري بحيث تصبح كُـلّ صور الإنتاج جهاداً في سبيل الله، يُقبل عليها المرء بدافع إيماني يبتغي فيه رضا الخالق قبل رضا الخلق، وأجري الدنيا والآخرة معاً، وهذا يعني ثورة تنموية، ثورة للعقول والسواعد تنطوي على الإطار النظري والعملي للثورة والتغيير، وشاملة لكل صور الإنتاج، ولكل مدخلات التنمية الاقتصادية، ومنسجمة مع الشروط السياسية والاجتماعية للتغيير والإصلاح.
- بعد هذه الجولة الفكرية الممتعة والمباحث المهمّة في العناوين آنفة الذكر وهي العناوين التي حاول الكاتب أن يجيب على أسئلتها، يحط كاتبنا السفير والإعلامي والباحث الأُستاذ عبد الله صبري، رحال تجواله في محطة حريّة المعتقد وهي المحطة التي انطلق منها في كتابه، ويلحّ على ضرورة إعادة النظر في الفكر الذي أَدَّى ويؤدّي إلى ظهور جماعات التكفير التي تستدل على شذوذها وانحرافها بنصوص محنّطة في تراثنا الإسلامي، وهنا يتناول الكاتب مفهوم الردّة، والإشكالات التي تثيرها، وكذلك حروب الردّة زمن الخليفة الأول أبي بكر الصدّيق (رضي الله عنه)، ويتبنّى الكاتب رأي الدكتور محمد عمارة (رحمه الله) في كتابه (الإسلام والحروب الدينية) من أنّ الخليفة الأول لم يحارب القوم حرباً دينية فهم يصلّون ويصومون ويزكّون، وإنّما حاربهم حرباً سياسية تعيد إلى الدولة وحدتها، وتضمن لهذه الوحدة النمو والتدعيم، ومع هذا فقد ظلّت تهمة الارتداد بمثابة السيف المُصْلَت على المعارضين منذ الدولة الأموية وحتى عصرنا الحاضر، وحالت في أحيان كثيرة دون حريّة التفكير والتعبير والنقد والاجتهاد، وهنا ومرّة أُخرى يستدل الكاتب بحشد من الآيات القرآنية الكريمة التي تجعل من حرية العقيدة مبدأً أصيلاً وحاكماً في الإسلام، وأن الإنسانَ حرٌّ في اختيار ما يعتقد ولا يجوز أن يكره أحد على اعتقاد تحت أي ظرف من الظروف، وقد جسّدت السنّةُ النبوية العملية هذه الحقيقةَ القرآنية..
وختامًا.. فَــإنَّني أحسبُ أنّ المؤلّف قد استطاع بما أوتي من توفيقٍ واطّلاعٍ وبحثٍ وجهدٍ الإجَابَةَ على مجموع الأسئلة التي طرحها في مقدمة مؤلّفه والتي أشرت إليها في تقديمي لهذا المؤلّف، ونجح في ردم الفجوات وسدّ الأبواب والمنافذ، وتجاوز الأسلاك الشائكة وحقول الألغام التي انتصبت دون الحقيقة؛ كي يصلَ إليها ثم يقدّمها لنا كأساً دهاقاً من العلم والمعرفة، نترعها فتزداد ظمأً إلى المزيد، ونردّد {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}.
* كاتب وباحث فلسطيني
*نقلا عن : المسيرة نت