أنس السبطي*
برعاية رسمية كما جرت العادة، تم الإعلان عن تنظيم دورة جديدة من مهرجان "موازين" الفني الذي يقام كل سنة بالعاصمة المغربية، الشيء الذي خلف ردود استهجان شعبية واسعة اعتبرت أن الظرفية لا تسمح بإبراز مظاهر الاحتفال والبهجة في الوقت الذي تتصاعد فيه موجات الغضب والحزن في العالم، حتى في صفوف أطراف غير عربية وإسلامية، بفعل حملات التقتيل المستمرة في قطاع غزة من طرف جيش الاحتلال الصهيوني، حيث لا يليق ببلد يرأس لجنة القدس ويزعم تضامنه مع الحق الفلسطيني والذي اعتبره يوما ما قضية وطنية ألا يظهر الحداد على أرواح آلاف الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ.
الجدير بالذكر أن هذه ليست المرة الأولى التي يثير “موازين” سخط مناهضيه، فقد بلغت الاحتجاجات عليه ذروتها إبان حراك 20 فبراير الذي طالب بإلغائه، فالمهرجان المذكور حظي بدعم سلطوي استثنائي جعله واحدا من رموز البذخ والعبث بالمال العام في تزامن مع تدني معيشة المغاربة لمستويات غير مسبوقة، كما كان أداة من أدوات الإلهاء وإفساد وتخريب الذوق الفني ودعم الفجور الأخلاقي، لكن في كل مرة كان جواب القائمين عليه هو صم الآذان.
لقد تحول مهرجان موازين إلى قضية سيادية حيث أن التنازل عنه ضرب لهيبة السلطة كما تتوهم، لذلك فإن استمرار تنظيمه رغم السهام الموجهة له يعد تكريسا للسطوة المخزنية التي تشعر بالنشوة والتضخم كلما عاكست مواقف الشعب المغربي وفرضت توجهاتها عليه، واليوم يبلغ الاستفزاز مداه ويتجاوز المغاربة الذين نظموا الآلاف من الفعاليات الحاشدة نصرة لغزة والذين اعتادوا على أن تُضْرَبَ مطالبهم ورغباتهم عرض الحائط إلى الإساءة المباشرة لأهل غزة الذين تصلهم أصداء تلك الأنغام النشاز والتي يراد لهم أن يُقَتَّلوا ويُبادوا على إيقاعاتها.
الحقيقة أن القوم مصدومون من انقلاب الشارع المغربي عليهم وعودته إلى حيويته ما نزع الشرعية الشعبية على اتفاقيات السلطة المشبوهة مع الكيان الصهيوني بعد أن ظنوا أن الأمور استتبت لهم، فقد أخرج مناصرو فلسطين عشرات الآلاف من المغاربة إلى الشارع فيما توارى أصحاب مقولة "كلنا إسرائيليون" عن الأنظار واضطر بعضهم لتغيير نبرته مدعيا حرصه على مصلحة الفلسطينيين بعد أن كانوا إلى وقت قريب يشنون حملات شعواء على الإنسان الفلسطيني لتأليب الرأي العام ضده. كما ساءهم ألا تؤثر بروباغندا المخزن إلا في بعض الكهول من طينة "خالف تعرف" الذين لا يستطيعون التميز على أقرانهم ولفت انتباههم إلا بتبني مواقف شاذة.
أما الشباب في عمومه فلم يكونوا في وارد التأثر بالمنتوج الإعلامي الرسمي الرديء، وقد كان تضامنهم مع القضية الفلسطينية محسوما حيث عبروا عنه في الفضاء الوحيد المفتوح أمامهم وهو الملاعب الكروية. لذلك فإن استئناف تنظيم موازين غايته التأثير على هذه الشريحة وإشغالها بنقط ضعفها والتي يسهل تحوير اهتماماتها بالتخدير بالحفلات الماجنة، فما لم تفلح فيه الخطب العصماء للمؤثرين المخزنيين ينجح فيه التشويه الأخلاقي وإفساد الفطرة الإنسانية والسعي إلى الفصل التام للشعب المغربي عما يجري من فظائع في الأراضي الفلسطينية المحتلة من طرف حليف النظام المغربي الإستراتيجي.
للإشارة فإن محاولة تملص السلطة من المهرجان المذكور وادعاؤها أنه شأن خاص بالقائمين عليه يفضحه توقيفها له منذ جائحة كورونا إلى اليوم، فمن سلط سيف المنع عليه كل هذه المدة يملك أن يُفَعِّلَهُ مرة أخرى تفاعلا مع المحرقة التي حركت أحرار العالم كله ولم تحرك شعرة في قوم متجردين من أي حس إنساني أو أخلاقي، لكن يبدو أن اختيار استئناف المهرجان في هذا التوقيت الحساس كان أمرا مقصودا، ثم أن المشرفين عن موازين كانوا دائمي الافتخار بحظوة مهرجانهم ورعاية الدولة الرسمية له وتوفيرها كل الظروف اللازمة لإنجاحه، كما أن جزءا كبيرا من تمويله يأتي من جيوب دافعي الضرائب ومن ثروات الشعب المنجمية خلافا لما يروجه أصحابه من استقلالية مزعومة، فالمهرجان لا يقتات إلا على ما تقدمه له الشركات الكبرى التابعة للدولة مثل المكتب الشريف للفوسفاط واتصالات المغرب والخطوط الجوية الملكية ناهيك عما توفره بلدية الرباط من لوجستيك، والذي يأتي على حساب الإنفاق على صحة المغاربة المتهالكة وتعليمهم المتدهور وتنمية قراهم وأحيائهم الشعبية التي ما زالت تعاني من الهشاشة والفقر المدقع.
برهنت الحملة الأخيرة التي تتصاعد ضد موازين عن أصالة قطاع واسع من المغاربة الذين يرفضون أن يرقصوا على جراحات إخوانهم والذين يناهضون هذا الاستخفاف بالدم الفلسطيني من مهرجان كان دائما عنوانا للإفساد الممنهج لهم، وفي نفس الوقت فإنها عرت الموقف الرسمي المغربي الذي يرفض أن يرتقي ولو قليلا من الدرك الذي أوقع البلد فيه ويصر على الاصطفاف في الموقع الخاطئ مع طرف مشبوه أصبح ممقوتا عند كل حر شريف في العالم وذلك في زمن كُشِفَتْ كل أكاذيبه وأساطيره.
* كاتب مغربي