منذ الإعلان عن فقدان الاتّصال بالطائرة التي تقلّ رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية السيّد ابراهيم رئيسي ورفاقه، إلى الإعلان عن النبأ الذي أفجع الجمهورية الإسلامية في إيران وسائر دول محور المقاومة، مرّت ساعات من الفوضى الإعلامية التي انعكست في أخبار عاجلة غير دقيقة، تُنشر ثمّ تُسحب ثمّ يُعاد نشرها.
ومع اللحظات الأولى لشيوع الخبر الأوّلي في الوسائل الإعلامية ومنصات التواصل، سال طوفان من التحليلات الإعلامية الممتزجة بالأخبار غير الدقيقة، والمضاف إليها في المصادر المعادية الكثير من مواقف الشماتة والأضاليل المبرمجة.
منذ لحظته الأولى، شكّل الخبر مادة إعلامية دسمة، فالكلّ تابع وانتظر: المحبّون والمبغضون، الأصدقاء والأعداء، حتّى الذين لا يعرفون الفرق بين محافظة اذربيجان الإيرانية ودولة آذربيجان، والذين لا يعلمون بالضبط من يكون السيد رئيسي. الجميع كان جمهورًا ينتظر الخبر اليقين، ويتعثّر بأخبار غير صادقة، وبتحليلات لا تمتّ إلى التحليل المنطقيّ بِصِلَة. وإن كانت الصدمة الناتجة عن الفاجعة تشكّل عذرًا للفوضى الإعلامية التي رافقت الساعات الأولى التي تلت النبأ المفجع، فالأمر في الأيام التي تلت تحوّل إلى تضليل ممنهج يستهدف الجمهورية بطرق مختلفة.
قبل الدخول في تفاصيل هذه الطرق، ينبغي التفريق بين الخبر والتغطية الإعلامية، وبين ما يمكن تسميته بالتحليل الإعلامي، وهو القيام بجمع الأخبار، التي تتفاوت درجة دقّتها وقد يبلغ بعضها الكذب الصرف، وربط بعضها ببعض في سبيل صناعة سياق مبنيّ على تحليل وليس على معطيات موثوقة ووقائع. وإن كان بعض الإعلام قد تورّط، بقصد أو بغيره، في بثّ الأخبار غير الدقيقة حول الفاجعة، فكثير من الإعلاميين تورطوا في تقديم تحليلات مبنيّة على فرضيات لا ترتبط بالوقائع مهما بدت معقولة أو منطقية، واستهدفوا، من حيث يعلمون أو لا يعلمون، مصداقية الجمهورية الإسلامية في استعجالهم "النحليليّ" الأقرب إلى خيالهم وتوقعاتهم منه إلى الواقع والوقائع.
* "إسرائيل" فعلتها: الفرضية المشبوهة
هذه الجملة دخلت ومرادفاتها سوق التداول الإعلامي منذ اللحظة الأولى، ورافقها اتهام من قائليها لكلّ من استمهلهم أو نصحهم بالتروي وانتظار التحقيقات: هل تحاول تبرئة "إسرائيل" من الجريمة؟ هل تعتقد أن الصهاينة لا يقومون بارتكاب مماثل؟ وهنا، يصبح المطالب بالتروّي والعقلانية متهمًا بتبرئة الصهاينة، بناءً على معطيات من بنات خيال الذين يستعجلون بثّ توقعاتهم بمعزل عن الحقائق، بل ويسعون إلى إنكار البديهيات إن هي تعارضت مع توقعاتهم! في الواقع، أميركا و"إسرائيل" تفعلان أكثر من ذلك.. لكنّ هذا ليس دليلًا كافيًا لاعتبار الحادثة جريمة مدبّرة، على العكس، التسويق لهذه الفرضية كواقع ولا سيما قبل أي تحقيق، لا يدين الصهاينة بقدر ما يمنحهم نقاطًا مجانية في المعركة، وهي نقاط يستطيعون الاستفادة منها على عدّة مستويات: تلميع صورة "القدرات الإسرائيلية المتفوّقة" التي بهتت وصارت من الماضي، تظهير الصهيوني كشجاع قادرٍ على الردّ الموجع ضدّ إيران بعد أن أثبتت الوقائع عجزه عن ذلك في سياق ردّه الهزيل والاستعراضي على عملية "الوعد الصادق"، تحويل الفاجعة المؤلمة التي ألمّت بالشعب الإيراني إلى لحظة هزيمة تلت ضربة موجعة يفترض المحللون الفوضويون أو المغرضون أن إيران تلقتها وتتكتّم عليها، ضرب مصداقية وشفافية الجمهورية في كلّ ما تعلنه في سياق الحادثة وأسبابها، ومن ثمّ البناء على "الفرضية" للقول بأن إيران عاجزة عن الردّ ولهذا تنفي أي تورّط "إسرائيلي" في حادثة الطائرة، وهنا عودة إلى النقطة الأولى وهي تلميع وتعظيم صورة العدوّ بعدما مُرّغت في تراب غزّة والجنوب، وبعدما عجزت قبّته الحديدية ومنظوماته الدفاعية المتقدّمة عن ردّ المسيّرات والصواريخ الإيرانية في ليلة الوعد الصادق واحتاج إلى مساعدة "أصدقائه".
* تقارير التحقيقات: لا اعتداء
بدأت إيران التحقيق في الحادثة فور وقوعها. الاحتمال الجنائي لم يُستبعد طبعًا، ولكنّه وُضع كغيره من الاحتمالات تحت مجهر التحقيق والتدقيق والدراسة. ثمّة شعب كامل ينتظر النتائج، ويثق تمام الثقة بدولته التي لن تخفي عنه حقيقة كيفية سقوط طائرة "شهداء الخدمة". صدر التقرير الأولي وبعده الثاني: استبعدت هيئة الأركان الإيرانية حدوث انفجار ناجم عن عمل تخريبي أثناء الطيران وقبل ارتطام مروحية الرئيس السيد رئيسي بمرتفع وبحسب تقرير الخبراء المختصين، لم يتم ملاحظة أي آثار للحرب الإلكترونية على المروحية.
وهنا، كان على فوضويي التحليل الإعلامي أن يختاروا الاعتذار عن سوء تقديرهم الذي ملأ الشاشات بفرضية وضعت الصهاينة في موقع المنجِز والمتفوّق، وأظهرت إيران في مظهر من تلقّى صفعة وفضّل السّكوت عليها. لكنّ أحدًا منهم لم يفعل، منهم من تجاهل ومنهم من آثَر المضيّ قدمًا في البناء على أوهامه ودحض الحقائق التي تكذّبها. وسواء في حال التجاهل أو المضيّ في التضليل، يدور هؤلاء الإعلاميون في دائرة مفرغة من الفوضى وخدمة الدعاية الأميركية من حيث يدرون أو لا يدرون. فالتقارير التي أصدرتها الجهات الرسمية المعنية في الجمهورية الإسلامية حول الحادثة والتي أخرجت فرضية الاعتداء من دائرة الاحتمالات لم تدخل حيّز اهتمام المحلّلين الذين فضّلوا تكرار الحديث عن فرضياتهم واستبعاد التقارير بما في ما من معطيات ووقائع، تحت عنوان الحق بالتحليل وملء فراغ الهواء الاذاعي والتلفزيوني كما الصفحات الورقية والإلكترونية بالتحليلات المبنيّة بأحسن الأحوال على افتراضات معقولة وإنّما لم تثبت صحّتها.
هذه الفوضى الممنهجة والتي انساق فيها البعض استعجالًا ثمّ استدركوا، ومضى فيها آخرون بغاية التضليل الحافل بالشبهات، قد تبدو للوهلة الأولى مجرّد انعكاس لارباك الشارع الإعلامي في الساعات الأولى للخبر المفجع، ولكنّها في الواقع عمل منظّم يحاول القيّمون عليه الاستفادة من كلّ حدث مهما كان نوعه، واستخدامه ضدّ محور المقاومة ومكوّناته.. حتّى في الصيغ الكلامية التي يبدو فيها المحلّل مزايدًا على المحور كلّه في العداء لـ"إسرائيل" وفي معرفة إجرامها.. ثمّة سؤال يجب أن يطرحه الإعلاميّ الذي يتصدّى للتحليل على نفسه قبل كلّ تصريح أو ظهور: هل أبني على معطيات أم على فرضيات؟ ان كان على معطيات، فعليّ التأكد من صحّتها، وإن على فرضيات، فمن تخدم الفرضية؟ بغير ذلك، ما رأيناه من الفوضى الإعلامية التحليلية يصبح بعد حين مدرسة إعلامية، تمامًا كما صار التضليل مدرسة.
* نقلا عن :موقع العهد الإخباري