لا تُقاس المسافات في قطاع غزّة بالأمتار، بل تُقاس بالخطر وطبيعته. كلّ مسافةٍ أبعد من سور المنزل، لا تستدعي النزوح، فيقول الرجال في مشاوراتٍ ميدانية مثلًا، الدبابات لم تتخطَّ شارعنا الخلفيّ بعد، ولا داعي لترك بيوتنا، فيقول آخر، ولكن "الكواد كابتر" تتجول بكثافة وتطلق النار عشوائيًا، فيردّ آخر، يجب المغادرة.. ولكن إلى أين؟ فلا أماكن بعيدة عن مرمى النار.
ولكن يبدو النزوح أسهل الخيارات، بعد رحلةٍ طويلةٍ مع النزوح المتكرّر، فيقول أحد النازحين وقتما حان نزوحه من رفح "لا أعرف هذه المرّة، أهي الخامسة عشر أم السادسة عشر التي أضطر فيها للنزوح". وكأنّ الناس تطبعت بطباع الرُّحَّل، احمل خيمتك واتبع غريزتك في البقاء، فأنت لا تملك سوى الخيمة وبعض ملابسٍ ونذرٍ من أثاثٍ قليل، تتسع لها أصغر العربات.
وحين تتم عملية النزوح، يكون النازحون قد ابتعدوا مئتي مترٍ عن مركز القصف، وفي أقصاها ألف متر، وهكذا يعتبر نفسه آمنًا، ويبدأ الجميع بالتعايش مع المكان الجديد، فيصبح مدينةً مكتملة الأركان، أسواقها وزحامها وهمومها، من محاولات تأمين المأكل والمشرب وحدود الخيمة، وبعضهم يحاول تأمين "السجائر"، حيث بلغ سعر لفافة التبغ الواحدة خمسين دولارًا أو ما يعادلها. دخّن الناس كلّ شيء، من أوراق الشجر إلى أوراق الملوخية وخلافه، ويدفعون سعر هذه اللفافة خمسة دولارات مثلًا، وأرخصها لفافةٌ من الشاي تساوي دولارًا واحدًا.
في السوق تسأل أحدهم سؤالًا عابرًا عن أحواله، فيصدمك بإجابةٍ عابرة "ابني استشهد بالأمس". أو في أحد المدارس - مراكز الإيواء - تسمع تهليلًا فتظنه فرحًا، ثمّ تسمع الأطفال يصرخون: "هاي الدبابة.. طخي علينا يلّا". ثمّ تكتشف أنّ هناك توغلًا "إسرائيليًا" بالقرب من مركز الإيواء، وشيئًا فشيئًا تعود الحياة لطبيعتها في مراكز الإيواء، خصوصًا إذا لم يستهدف التوغل بقذائفه مركز الإيواء، بل الاتّجاه المعاكس.
لا شيء هنا يبدو على عادته، كلّ شئٍ يبدأ من حالة الصفر، فالبشرية هنا تعود لثقافة إنسان الكهف الذي يسعى للحصول على الماء بأصعب الطرق، من رحلة البحث عن الدلاء، وصولًا لمرحلة البحث عن مصدر الماء، وما بينهما من رحلة البحث عن وسيلة نقل الماء وتوفير ثمنه، وكذلك البحث عن مصادر الطاقة ومصادر الطعام، وكأنّ الناس تخرج للصيد، بعد رحلة احتطابٍ مضنية.
إنّ العدوّ لم يوفّر جهدًا في تكدير حياة الناس أو انتزاعها، حتّى مرحلة الإحباط لا يريد لك أن تظنّ أنّها آخر المطاف، ويريد الإيحاء لك بأنّ كلّ ما حدث لا يزال في بدايته، وما خفي أدهى وأمرّ، ولكن الناس تزيده غيظًا، بأنّها لا تزال في مراحل الصبر الأولى، وأنّ بإمكانها تحمل الضغط الشديد أكثر، وأنّ الانكسار ليس في قواميس غزّة، والهزيمة ليست ثقافة فلسطينية.
كلما تصاعد الحديث عن اقتراب الهدنة، تصاعد الأمل في نفوس الناس، وهو ليس أملًا بالحديث عن بدء الرغد، بل أقصى الأمنيات نقل الخيمة من العراء والهواء الطلق إلى ركام المنزل، فنصب الخيمة قرب ركام المنزل أقصى الرغد، وتشعر أنّ شعبًا هذه رجاءاته بعد كلّ هذه التضحيات، لن يهزمه الحديد ولن تهزمه النار، وسيجعل من جرائم العدوّ حبلًا لمشنقته.
رغم أنّ هذه الحرب بدأت ولن تنتهي مهما تبدّلت أطوارها، فإنّ هذا "الطور" قد بدأ ينفد، وبدأ يستنفذ كلّ الخطط، ولم يعد من هدفٍ قابلٍ للتحقق، ولم يعد العدوّ قادرًا على ابتكار وسائل للقتل والتدمير أكثر، فقد نضبت جعبته وجفّ خياله، في المقابل يدفع من مقومات وجوده ومن عوامل بقائه باستمرار عملية الإبادة، لأنّ صاحب الحق يأكل لحم جلاده، ولن يتوانى أن يهرس عظامه إن أصرَّ على ارتكاب المزيد، وليس من السهل على أميركا ارتكاب مجازفة كبرى بالمصير، مصير الكيان.
* نقلا عن :موقع العهد الإخباري