لا يليق باليمن أن يظل واقفا في مكانه دون أن يبدأ في ترتيب بيته الداخلي بعد كل تلك العواصف التي حدثت له بدءا من عام 2011م وصولا الى عاصفة العدوان التي ماتزال مستمرة على مدى أعوام خمسة (2015م – 2019م)، فالقضية التي يجب الوقوف أمامها بقدر من التأمل والمراجعة والنقد (جلد الذات) يجب أن تبدأ حتى يكون عوده أصلب مما كان , ويكون تفاعله وتأثيره أدوم وأجدى.
ليس مطلوبا من اليمن في هذه المرحلة أن يكون حاضرا بقوة في تفاصيل المشهد السياسي الاقليمي – وإن كان الواقع يفرضه بقوة الحضور الشعبي والصمود الاسطوري – فالتعامل مع الواقع يجب أن يكون بقدر معلوم يحفظ التوازن الاجتماعي والثقافي والسياسي ,لكن حضور اليمن القوي يفترض تركيزه في بؤرة واحدة وهي ترتيب البيت الداخلي , وإعادة تأهيله وفق أسس وقيم جديدة , كما يفترض تجديد الأهداف وتحديثها بحيث تكلف لجان اكاديمية وعلمية تعمل جاهدة على دراسة واقع اليمن , وتقييم الحال الذي آلت اليه الامور في ظل المستجدات والتفاعلات الجديدة والحالة الأجد , ويفترض بقيادة الدولة في هذه المرحلة أن تنظر الى مؤسسات الدولة وبنيتها التنظيمية وهيكلها العام ومدى فاعلية تلك المؤسسات وكيفية تحديث نظمها وآلية عملها ليكون تفاعلها أكثر نفعاً وتأثيراً من ذي قبل مع الاستفادة من النظم الحديثة ومن التقنية الالكترونية حتى نتجاوز كل العثرات ويكون الأداء أجدى وأنفع , فالمرحلة التي نحن فيها تتطلب تنظيماً قوياً ولا تقبل الفوضى والارتجالية في التفاعل مع مستجداتها ومعطياتها.
وفي ظني ان تكوين قاعدة بيانات لدى الدوائر المختصة في مكتب رئاسة الجمهورية والجهاز الامني وخطط واستراتيجيات ذات أهداف وطنية عليا بحيث تضبط الخيار المنهجي في المسار العام وتمنع المزاجية والارتجالية في المؤسسات والوزارات ، هو خطوة لا بد من مناقشتها والعمل على تفعيلها وتوظيف الامكانات المتوفرة لتكون ذات جدوى ونفع في صناعة التحولات وفي اتخاذ القرارات ومن الأجدى أن يتم إنشاء مركز دراسات يتبع الرئاسة ويختص بدراسة القضايا والمستجدات ويساهم في صناعة القرار وتصحيح الاختلال في النظام وتقويم السياسات العامة.
فمؤسسات التكاثر الثقافي مؤسسات مهمة في البناء التنظيمي للدولة يفترض أن لا يظل دورها غائباً وقائماً على الفوضى والارتجالية في مسار الدولة العام , وهي مؤسسات نظرية مهمة في البعدين الاقتصادي والسياسي، ففي البعد الاقتصادي من حيث استثمارها في بناء الانسان وتنمية قدراته ومهاراته ومثل ذلك يعود بالنفع العميم على اليمن وثقافياً من حيث قدرتها على التجديد والابداع والابتكار فهي تثير السؤال وتناقش الاجابات من منظور حيوي وتفاعلي , والمرحلة تتطلب تفعيل دور هذه المؤسسات والاشتغال على حيويتها وتفاعلها مع الواقع ومثل هذه المؤسسات في الاهمية المؤسسة التنفيذية – الحكومة – التي يفترض بها تكوين رؤية واضحة للهيكل العام وكيفية توظيف المتاح وتحديثه , وهذا الأمر لا يمنع بقية المؤسسات من الاشتغال على قواعد البيانات بحيث تستطيع كل مؤسسة تكوين رؤية واضحة وعلمية تشخِّص إشكالات المراحل وتقترح المعالجات وبحيث تكون السلطة التنفيذية قادرة على خدمة الجماهير العريضة بكل قدرة وتمكّن.
ليس اليمن وطناً عابراً ولن يكون كذلك لأنه متجذِّر في عمق هذه التربة ومن خصائصها وله امتداد تاريخي وحضاري، ولذلك فبقاء هذا الوطن كما كان عليه في سالف دهره من القدرة والتمكّن وصناعة الحضارات والتاريخ تفرضه حزمة من العوامل وهي التي تمنع تفككه وتشظِّيه وإن كابد المستعمر نفسه في الوصول لذلك فهو سيفشل حتماً , وما يجب معرفته هو أن كل مرحلة تتطلب وعياً واضحاً بها , وتتطلب قيادات بحجمها , ولا نعدم مثل ذلك في صفوف الواقع اليمني اليوم.
نحن اليوم في مسار معركة شاملة لعل أبرز ملامحها المسار العسكري والمسار الاقتصادي لكن لن ندرك أن أهم تجليات المعركة سيكون المسار الثقافي بعد أن تستنفد المعركة العسكرية خياراتها وتضع الحرب أوزارها، سوف يبرز دور المعركة الثقافية بضراوة أشد مما كانت عليه ولذلك من الحكمة أن يكون لدينا الاستعداد الكامل للمواجهة حتى يتكامل انتصارنا ونستعيد زمام الأمور ونتحكَّم في مقاليد الزمن القادم بدل الاستسلام.
معركتنا الحقيقية ليست مع أمراء النفط فهم ليسوا أكثر من كونهم خزان مال وحراس ثروة مهمتهم تمويل المعارك والاستراتيجيات التي تقف وراءها كبريات المؤسسات البحثية في العالم , والتعامل مع العقل «الآري» ليس كغيره فهو لا يتقبل القضايا ككل بل يقوم بتحليلها وتجزئتها ويسعى إلى توظيف الثغرات ليحقق غاياته ومآربه , ولذلك نؤكد على ضرورة الاهتمام بالإنسان وتوفير حاجاته البيولوجية وإشباع تجاربه من خلال الفنون , وتفجير طاقاته الفكرية من خلال الحوار الدائم الذي يصحِّح المفاهيم.
لن تكون المعركة الثقافية سهلة فقد تركت الحرب جروحاً غائرة ومسافات نفسية متباعدة , وحالات فكرية صامدة , ومفاهيم وتصورات ثابتة من خلال تكثيف الخطابات الاعلامية والفنية والادبية في الاستهداف، ولذلك نرى أن جمع الطِّيف المتعدِّد في الرؤى والمشارب تحت خيار مشروع وطني جامع مُوَجَّهْ وفق رؤية استراتيجية تبنى على أسس فكرية وعقلية هو ما يعيد ترتيب نسق الذات في داخلها ويرمِّم المتصدع في القناعات والخيارات ويعمل على تمتين الهوية الوطنية الجامعة عبر مختلف المجالات.