يبدو أن النظام العالمي يسعى إلى تفكيك نفسه بنفسه من خلال حالة الاحتكاك والتفاعل مع قضايا المجتمع الإنساني المعاصر، ولعله بمثل ذلك يكون قد أفصح عن شيخوخته ووصوله إلى حالة الكمال التي يبدأ الوصول إليها بالتعبير عنها بحالة التضاد والتناقض، وهو الأمر الذي يبدو عليه النظام العالمي القديم، وقولنا هنا بـ”النظام العالمي القديم” يوحي كما تدلُّ الكثير من النظريات والكتابات بالاشتغال والتمهيد للنظام العالمي الجديد الذي تسعى المنظومة الصهيونية العالمية عبر أدواتها في العالم وعبر أنظمتها للوصول إليه..
ندرك كما يدرك الكثير من الحكماء والمفكرين أن النظام العالمي القديم كان يرى في البعد الإنساني والحريات والعدل والمساواة والحقوق، وفي البعد الأخلاقي وفي التعدد وتنوع الحضارات أدوات لفرض هيمنته وخضوع الأنظمة في الرقعة الجغرافية العالمية لشروطه ومقاصده، ومن خلال تلك الأدوات فرض ثنائية الخضوع والهيمنة وأدار العالم وفق شروط المصلحة الاقتصادية والنفع العام، ووصل من خلال تلك الأدوات إلى مقاصده، ومثل ذلك أمر لا يمكن الشك فيه، فالحروب التي تحدث أو التي حدثت منذ نشأته في القرن الماضي وبالتحديد في منتصفه حملت العنوان الإنساني، وهي تخفي تحت إبطها المصالح الدولية كما يحدد معالمها -أي تلك المصالح- صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي وضرورات المجتمعات التي تملك حق الفيتو في مجلس الأمن الدولي، بمعنى أن الدول التي تدير العالم عبر الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي والمنظمات الإنسانية التابعة للمؤسسة الدولية هي من كانت تدير العالم وهي من تحدد مساراته وتعدل في سياقاته وفق رؤية توافقية تتشابك فيها المصالح وتبدع عالمها بعيداً عن تفاعل الثقافات والحضارات المقهورة كالحضارة العربية مثلاً التي يرى المجتمع الدولي أنها ثقافة جامدة وحضارات غير إنسانية كما يبدو من خطابه ومن حركة تفاعله مع الأحداث، ومن تصوراته الذهنية التي ما تفتأ الأجهزة الاستخبارية العالمية تمتّن أواصرها عبر شبكة المنظومة الإرهابية التي تمارس أنشطتها في الجغرافيا العربية، وتمتد بها اليد إلى المجتمعات الغربية لترسم نموذجاً بدائياً قاتلاً ومدمراً ومستهلكاً غير منتج، وهو يحاول تمتين تلك الصورة من خلال حركة العدوان على اليمن وإمعان دول التحالف وعلى رأسها السعودية في انتهاك القانون الدولي والعهود والمواثيق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان..
ومثل ذلك العالم يقوم الآن بمرحلة الرصد وتوثيق الجرائم التي يرتكبها العدوان في اليمن، وهو يغري نظام آل سعود بالقيام بها من حيث لا يدري كما أغراه من قبل ذلك بهجوم «11 سبتمبر»، وهو في المقابل يعمل على توظيف الأحداث والوقائع وفق خطة إجرائية منهجية، كما نرى ذلك في قانون «جاستا» الذي يعمل الآن على توظيف حدث 11 سبتمبر 2001م بعد عقد ونصف من حدوثه، وقانون «جاستا» جاء بالتزامن مع العدوان السعودي على اليمن، وهو عدوان أمعن في الذنوب الإنسانية والأخلاقية ويملك في رصيده العشرات من الآثام المروعة التي ستكون سيفاً مشهراً ومسلولاً في وجه دول التحالف متى أرادت أن تعيد مراجعة مواقفها في المستقبل القريب أو البعيد، وقد جاءت تلك الآثام والجرائم لتحقق هدفين اثنين، الهدف الأول: استمرار سياسة الهيمنة والخضوع وتدفق الأموال إلى المصارف الدولية وعدم الخروج عن هذا المسار، والهدف الثاني: تفكيك منظومة النظام الدولي القديم من خلال إظهاره في مظهر العاجز أمام الخروقات التي يقوم بها التحالف في اليمن، وقد تمثل ذلك العجز في مسارين، المسار الأول: الصمت وعدم الإدانة، والمسار الثاني: العجز عن فرض حلول، وثمة إشارات دالة على حالة التناقض كحذف السعودية من قائمة الدول المنتهكة لحقوق الإنسان بعد إعلانها وتصريحات “بان كي مون” بشأنها، ويبدو أن النظام الدولي الجديد يسعى إلى التفرد وإقصاء الدول الدائمة العضوية من خلال تفكيك المنظومة الدولية وإعادة صياغتها بما يتوافق ومصالحه..
ويبدو أن العرب في هذه المرحلة المفصلية أمام حالة تتراوح بين الوعي واللا وعي بها، ولذلك فالتفاعل مع المستقبل معناه عدم التشبث بالماضي، ومعناه إعادة صياغة المنظومة الثقافية والحضارية بما يحقق التأثير لا الخضوع..
الواقع اليوم غيره بالأمس، وثورة “كورونا ” سيكون لها أثرها الكبير في قابل الأيام، فالقضية تحمل تحت إبطيها تبدلا كبيرا في معادلة الوجود العالمي..
كما أن حركة العواصم العالمية بشأن حالة التمييز العنصري في حادثة جورج فلويد في أمريكا تحمل علامات واضحة ومؤشرات لا تقبل التأويل بحدوث متغير عالمي في المسار الثقافي والمسار الإنساني، وهو أمر بالغ الأهمية والوعي به يتطلب توظيف المعلومات بما يحقق المصالح العليا للعرب لا الإمعان في المسارات المضادة، فتعود العجلة إلى الوراء ونحن ننوي التقدم بها خطوات إلى الأمام..
ذلك أن العودة إلى الحالة الانكفائية , وإلى البنى التقليدية في تنظيم مقاومة غير متكافئة, والانسحاب من الزمن المعرفي المعاصر بالعودة إلى الذاكرة , ومن خلال المرجعيات القديمة تلك نحدد وعينا بالعالم ونحن تتجاهل الفجوة الكبيرة بين الحاضر والماضي فنحن نعلن احتجاجا سلبيا غير فاعل وغير مؤثر في المسار العالمي الجديد..
نحن نحتاج اليوم إلى عقول سياسية تعي ماذا تريد ؟ وكيف تصل إلى ما تريد ؟ فالقضية لم تعد صراعا ثقافيا أو حضاريا وجوديا أو قدرات عسكرية بقدر ما هي توظيف لسيل المعلومات المتدفق بما يحقق مقاصد الله في الأرض ويحقق الرفاه للبشر ويحقق العدل ويضمن التوازن في المسار العالمي ويحقق القدر اللازم من التأثير والفاعلية للعرب في السياسة الدولية بما يعزز قيمتهم ومكانتهم ويخرجهم من دوائر الخضوع والهيمنة إلى دوائر الصناعة والتأثير، وهي مهمة صعبة تحتاج عقولا وقدرات لا طاقات انفعالية تنتهي بزوال التأثير