غضا للطرف عن كل ما قيل بخصوص الخلفيات السياسية التي هوت من خلالها نظم الخليج إلى مستنقع التطبيع مع الكيان الصهيوني، والقراءات المجتزأة والمجتزئة التي أعطيت لها عبر مختلف البلاتوهات، الصحف والمنابر، فإن اللافت للنظر في حركة ما يُنعت بالتطبيع هاته هو ذلك الاستدعاء المقيت لمنبر الدين في غير مسرح خطابه لاستعداء الخارجين من الشعوب عن أمر حكامهم هؤلاء، الذين كانوا هم أول وآخر من خرج عن إرادة شعوبهم، وتاريخ أسلافهم مذ قامت دولهم الوطنية وأماراتهم “المأمورة” في ظلمة حركة الاستعمار التي جابت ارضي بعضهم وتجنبت أخر، لكن دون أن تتجنب عملية تشكيلها وتنصيب تاج على كل عروشها؟
السديس الذي ظل يبكي الناس في رمضان من خشية الله وعذابه، داعيا إياه لسحق ومحق الكيان الصهيوني الغاصب انقلب يدعو إلى التصالح والتطبيع مع هذا الكيان وربما سيعيد النظر في دعائه إلى الله بإحقاق ما استجد لديه من حق وليس سحق هذا الكيان في خطب رمضان القادم، ولكن على ماذا سيبكي ويُبكي المصلين من المعتمرين وقتها يا ترى؟
هي مأساة الوجود العربي المنسحق تحت أحذية الارادة الاستعمارية في شاكلتها الجديدة، إرادة تعتمل داخل التفاصيل الدقيقة للتناقضات الثقافية والفكرية والمذهبية حتى، التي انبنت عليها دولة وسلطة العرب القُطرية، تعطل العقل بإثارة هاته التناقضات من خلال نخب منزوعة الاخلاق والقيم منبطحة لارادة التدجين والتضليل نظير عرض من الدنيا قليل.
لم تكتفِ الهيئات “الكنسية” التي تتولى إدارة الشأن الديني الاسلامي وفق إرادة، ليس ربوبية السماء مثلما هو منصوص ومنطوق الفكرة الاسلامية، بل ربوبية الأرض التي صارت مخدومة من الأولى وليس العكس – لم تكتفي – بسكوتها الجبان الجشعان على انحراف القيادة السياسية السيادية للبلاد في التحول الثقافي والفكري غير المتزن وغير المدروس نحو ما يصور على أنه الحداثة، مع أن نمط الحكم وآليات قيادة البلاد أولى وأحوج بالتحديث الصحيح من مجرد السماح بقيادة النساء للسيارة، وتنظيم السهرات الماجنة علىى تخوم البقاع المقدسة، فسارعوا إلى مباركة وتزكية التطبيع من خلال توظيف مسف للنصوص تتعلق بحسن جوار ومعاملة النبي لمن حوله من بعض اليهود في المدينة!.
اختزال عبثي لسعة الفكر وثقل التاريخ وحتى لما بقي من أرصدة الفقه وسرديات الأحكام السلطانية التي تقف عند حد عتباتها التراثية، لمواجهة مستجد كبير تنأى لغة وخطاب التراث السياسي عن حمله مهما تضمن من نصوص تقف موضويعتها عند حدود زمنيتها الأولى.
لا أعتقد أن السديس ومن يزامله في ما يسمى بكبار هيئة العلماء أو كما ينعتها الأمير المنشق خالد بن فرحان آل سعود المنفي بألمانيا بهيئة كبار المنافقين، في مستوى فهم التاريخ وعناصر الصراع المكنونة فيه والمكونة لحركته، حتى تكون لهم وفق ذلك الاستطاعة على التأصيل المستحيل للواقع، من خلال اختلاق التأويل الخاطئ لمسرودات السيرة النبوية واتخاذ بساطة ومحدودية الظاهرة فيها التي لا يعدو مغزاها ومعناها المدى الاجتماعي إذ ذاك لتفسير وتبرير قرار خطير لأمير أقل ما يمكن نعته به “الرعونة”.
فلا أحد يمكنه التسلبم بأن السديس ومن معه من مشايخ “الكنيسة” المظلة والمضللة للعرش يمكنه قراءة الواقع الدولي الحالي وفق الشبكة الاستراتيجية الجيوبولتيكية المحبوكة باتقان تتناهى وتتداعي لمبتدأ الجملة والحملة الاستعامرية الأولى، تتجاوز بساطة أسلوبية الجوار والاحسان فيه من النبي إلى اليهود بالمدينة المنورة، وأنه على ضوء ذلك ليس الأمر يعني العلاقة بين المسلم والآخر أو بين المسلم واليهودي بشكل أدق بل أن الأمر يتعلق بالموقف حيال مرحلة ووجه جديد للاستكبار الاستعماري غير ذلك الذي مر بالتاريخ وأعاد تشكيل الجغرافيا وفق القطريات الحالية.
السديس وغيره من فقهاء البلاط الذين عوض أن يشتغلوا على أزمة عقل المسلم الكبرى مع الواقع والتاريخ، راحوا ينطلقون من قصور الفقه لديهم يؤسسون لفقه القصور وما يريده ساكنة تلك القصور، وذلك باعتصار النصوص الخفيفة والمحاولة عبثا لتمطيطها كي تعبر عن إرادة الحاكم وتغطي اغتصابه لكل الشرعيات التي تدين سلوكه الخاطئ في التصرف بمصير ورصيد الأمة التاريخي، وهكذا يكون نجم السديس الذي ظل متألقا في الهوئيات المبثوثة من الحرم المكي مذ انبجس الاعلام الفضائي قد هوى حين اختار قهرا من على منبر الحرم مغازلة النجمة السداسية، واسستبدل في استحمار نصوصي انتقائي مقيت السلام الذي ينشده الاسلام بالاستعمار الجديد الذي يشيده التطبيع مع الكيان الصهيوني في فلسطين.
*نقلا عن : رأي اليوم