تُفيد الكثيرُ من الأنظمة القانونية بأن الجرائم التي تقع على دولةٍ ما فإن الاختصاص ينعقد لنظامها القضائي في محاكمة مرتكبي الجرائم، سواءٌ أكانوا من رعاياها أم من رعايا دولة أجنبية، وفي القانون الدولي ما يعطي المحكمة الجنائية الدولية صلاحية النظر في الجرائم الأكثر خطورة على المجتمع الدولي متى كانت الدولة طرفاً في النظام الأَسَاسي للمحكمة الجنائية وتتمثَّل تلك الصلاحية في الاختصاص التكميلي للقضاء الوطني في حالة عجزه أَو فشله في محاكمة مرتكبي الجرائم الدولية، والتي يكون مرتكبوها خارج الوطن وفي أقاليم متعددة.
ثمة صور أُخرى يعجز فيها النظامُ القضائيُّ عن تعقب وَمحاكمة مرتكبي الجرائم الدولية عندما يكون الجُناة من جنسياتٍ أجنبية وخارج إقليم الدولة التي تم منها ارتكاب الجرائم، ومن تلك الصور عدمُ رغبة نظام الدولة في محاكمة المجرمين؛ بسَببِ اللجوء إلى تسويات سياسية أَو تأخُر جهات الاختصاص في الدولة؛ بسَببِ إحباطها وَيأسها وعدم الأمل في اقتضاء حقوق الضحايا أَو تحقيق مسائلة مرتكبي الجرائم، وربما يكمن السبب في ضعف قدرة وكفاءة أجهزتها الجنائية وَالقضائية في تعقب وملاحقة ومحاكمة مرتكبي الجرائم.
ولذلك إذَا لم يباشر القضاء الوطني اختصاصَه وفق القواعد القانونية المحلية، فإن الاختصاص ينعقد للقضاء الدولي متى ما توفرت المعلومات عن الجرائم والملفات القضائية لمدعي عام المحكمة الجنائية الدولية، وله أن يباشر التحقيق من تلقاء نفسه بعد أخذ التفويض من الدائرة التمهيدية بالمحكمة، وذلك بموجب اتّفاق مع الدولة صاحبة الدعوى التي يتوجب عليها أن تقدّم للمحكمة كُـلَّ ما تطلبه من ملفات جنائية مشمولة بأقوال الشهود والأدلة والإثباتات المتعلقة بالجرائم.
ويمتد اختصاص المحكمة الجنائية إلى الأشخاص الذين يرتكبون الجرائم ولو لم تكن الدولة أَو جنسية المتهم طرفاً في النظام الأَسَاسي، وذلك بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة متى ما كانت الجرائم دولية وتم تصنيفها على أنها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، يشملها اختصاص المحكمة الجنائية.
وما تجدر الإشارة إليه، أن الحصانات ذات الطابع الرسمي بمستوياتها الدنيا والعليا، وسواءٌ أكانت مدنية أَو عسكرية، فإنها لا تحول دون المحاكمة أَو المسائلة الجنائية لمرتكبي الجرائم الدولية.
وبناءً على ذلك، كان لزاماً على الجهات المعنية الرسمية بتوثيق جرائم العدوان السعودي الأمريكي على اليمن، أن تقوم بواجباتها واختصاصاتها وبما يضمن استكمال ملفات ذات طابع مدني وَجنائي، ليتسنى بعد ذلك رفعُ الدعاوى بشأنها أمام القضاء الوطني أَو الدولي وفق ما تم الحديث عنه آنفاً.
وما تجدر الإشارة إليه في هذا السياق، دور وزارة الشؤون القانونية التي كان لها دور ملحوظ في ما يتعلق بمخاطبة الوزارات والمؤسّسات بضرورة حصر الأضرار الناتجة عن العدوان على اليمن، والعمل على تحريك الدعاوى القضائية أمام المحاكم المحلية والدولية.
ومن ذلك على سبيل المثال، ما اطلعتُ عليه من مذكرات مع عدد من الوزارات بشأن إعداد الإحصائيات والتقارير الطبية والفنية الموثقة والمتعلقة بجرائم العدوان السعودي الأمريكي على بلادنا كمتطلبات أَسَاسية لإقامة الدعاوى ضد دول تحالف العدوان، ومنها مذكرة وزارة الشؤون القانونية رقم 72 بتاريخ 19 / 5/ 2015م الموجهة إلى وزارة الصحة، وقد حثّت المذكرة بإعداد إحصائيات عن ضحايا العدوان من القتلى والجرحى معززة بتقارير طبية من مستشفيات الجمهورية والمراكز الصحية وتقارير عن الأضرار التي ألحقها قصفُ طيران العدوان على المنشآت الطبية والطرق المؤدية إليها وسيارات الإسعاف وموقع المنشأة الطبية وتاريخ القصف وساعته، وتقارير وإحصائيات عن الإصابات التي تتعرّض لها الطواقم الطبية أثناء القصف أَو أثناء قيامهم بعملية الإسعاف، وتقارير عن الأضرار التي أصابت الأجهزة والمعدات الطبية لعدم الاستخدام الناشئ عن شحة المحروقات أَو انقطاع الكهرباء؛ بسَببِ الحصار المفروض.
إضافةً إلى ما أكّـدت عليه وزارة الشؤون القانونية في مذكراتها بأن يتم تقييم الخسائر المالية للمنشآت والأدوات والمعدات الطبية، وأن يتم إرفاق التقارير بالصور الفوتوغرافية والحية للإصابات التي تعرض لها الضحايا، وكذلك أخذ عينات وَصور عن بقايا الصواريخ أَو الشظايا مع التأكيد على إعداد التقارير العلمية التي يتم الاستعانة بها بواسطة خبراء متخصصين، وكذلك الحث على أن تكون تلك التقارير موقعة من الجهة المختصة بالوزارة وممهورة بختمها.
وإزاء تلك التقارير المؤمل أن تكون معدّة وفق معايير قانونية دولية، فإن من الضرورة بمكان أن يكون هناك وعي قانوني بأن يلجأ ضحايا العدوان إلى المحاكم لإثبات حالة الأماكن والدمار والأشخاص الناتجة عن قصف طيران العدوان، وينبغي مع ذلك أن يكون هناك تنسيقٌ مشتركٌ مع الهيئات القضائية وَالوزرات المعنية بتوثيق جرائم العدوان ومراكز التوثيق الحقوقية لتحضير متطلبات إقامة الدعاوى المدنية والجزائية ضد أنظمة دول التحالف ومرتكبي جرائم العدوان السعودي الأمريكي على اليمن أرضاً وإنساناً..