بدون قراءة واعية للتأريخ ومراجعة جادة وصادقة للقضايا الوطنية لا يمكن أن يتجاوز اليمنيون دوامة العنف التي تحولوا فيها مع الأسف الشديد إلى أدوات بأيدي الجوار البدوي التي بدورها هي بيد غيرها أقصد قُطَّاع الطرق والقراصنة الذين سُيِّدوا على مساحة شاسعة من الجزيرة العربية وأخضعوا أبناءها لحكمهم !!
حقاً إنها مأساة موضوعها عموم تأريخ الصراع على السلطة في اليمن، وهو عنوان لا يستوعبه مقال أو عدة مقالات ولا كتاب أو عدة كتب..
ما قصدته في هذه العجالة هو الإشارة إلى وجوب أخذ العبر من محطات الصراع على السلطة عبر التأريخ ومسؤولية العقلاء إن وجدوا في البدء بالخطوة الأولى في البحث عن رؤية وطنية حقيقية بوسائل ديمقراطية، لأن استمرار هذا الصراع هو استمرار للموت مهما تعددت أسبابه وتناسخت مبرراته وتحت أي راية أو شعار ، ولعلَّ من هذه الخطوة الخروج من متاهات التاريخ بتشعباته واستخدام عموميات خلافاته السلبية التي أكل الدهر عليها وشرب وكان لها دور رئيس في مراكمة أحقاد الأمة وتجنب أسباب الإحباط ومحاولة التقاط اللحظة التاريخية التي يمكن أن تكون محطة انطلاق نحو بناء سلام حقيقي يحفظ الإنسان كأهم ركن من أركان الدولة باعتباره مفتاح بنائها ، وسعادته وتطوير حياته هو الهدف الباقي على الدوام ، لأن إرادة الانسان المؤمن الخلَّاق والواعي لا شك أنها من إرادة الله ، واللحظة التاريخية أو محطة الانطلاق المقصودة هي اللحظة الفاصلة بين مرحلتي الاضطراب والنزاع ومسبباته كانعدام العدالة والأمن وانتشار الفساد وبين مرحلة السلام الحقيقي الذي تُبنى من خلاله دولة العدل والسلام والمواطنة المتساوية وتُستأصل أسباب الاضطراب وتمنع أن يكون للفاسدين القول الفصل في بنائها أو الحديث عنها..
لقد أضاع اليمنيون كثيراً من اللحظات والمحطات التاريخية التي كان بالإمكان أن يجعلوا منها منطلقاً نحو بناء دولة يتفق على هويتها الشرفاء والعقلاء منهم، وآخر الامثلة الحُلمُ بالثورة في 11/فبراير/2011م وتداعياتها المستمرة حتى اللحظة، حيث تحولت ساحة التغيير الى سوق للترويج لأهداف متعددة ومنقسمة بدون قاسم مشترك، وبدلاً من أن تكون فرصة لتوحيد الأهداف والقيادة بأسلوب الاختيار الديمقراطي الحر تتالت الوقائع والمناورات السياسية ليكون لبعض السفارات القول الفصل في استمرار الفصل بين الأقوال والأفعال ورفع الشعارات الثورية الجوفاء المخدرة التي أدت بثُلة من أعتى عتاة الفاسدين الذين نصَّبوا أنفسهم أو نُصِّبوا لأن يتحولوا من قادة لنظام الفساد إلى قادة للثورة بمشاركة رموز من القوى السياسية التي كانت تسمي نفسها قوى المعارضة، وهي في الحقيقة شريك في مسرحية الجمع بين السلطة والمعارضة هذه القوى انضمت هي الأخرى الى ساحة التغيير وشاركت في استبعاد الثوار الحقيقيين وتهميشهم في معمعة التقاسم الذي هبطت به المبادرة السعودية المسماة بالخليجية والتي تم بموجبها إعادة تقاسم الحاضر والمستقبل وغاب الثوار الذين نُسبت اليهم الثورة زوراً وبهتاناً ، وبهذا الاختطاف ضاعت فرصة انطلاق جديدة لبناء دولة يمنية تبدأ بتطبيق قواعد العدالة الانتقالية بمفهومها القانوني كمصطلح حديث جُرب في عديد من بلدان العالم مع الاستفادة من مبادئ الشريعة المتعلقة بمفهوم العدالة التي تجعل تقويم اعوجاج الحكام حق وتكليفا لكل مواطن حُرا شريف..
وأثبتت التجارب أن هناك من المحسوبين على الثقافة ممن أيدوا العدوان أو صمتوا عن ممارساته يتجاهلون حقيقة أنه لا ثورة ولا جمهورية ولا دولة بدون سيادة كاملة، وأن الاستقواء بالخارج إنما يؤدي الى الفوضى، وان أي ثورة لا يمكن أن يكتب لها النجاح بدون توحيد أهدافها وقيادتها وتجميع أشلائها وفق رؤية ثورية وطنية موحدة..
اُدرك صعوبة التوحيد في ظروف التحريك المصبوغ بصبغة الثورة، ولكني هنا أتحدث عن فرصة ضاعت لإنجاح ثورة حقيقية تتنازل عن جزء من أنا نيتها لإفساح المجال أمام الاتفاق، إخضاع السياسة لمقتضيات العدالة بدلاً من ذلك القانون المُسخ الذي اُسمي: (قانون العدالة التصالحية) نسبة الى صالح!!، والذي حوَّل العدالة الى مطية لأقبح الممارسات السياسية نتج عنها ما أُسمي : (قانون الحصانة) الذي ضرب بقواعد العدالة عموماً والعدالة الانتقالية في العالم ومبادئ الشريعة الإسلامية عُرض الحائط، ومن المفارقات أن من بين من أقرّ هذا القانون أحزاب ومكونات ترفع شعارات تطبيق الشريعة الإسلامية ووقفت ضد دستور الوحدة عام 1990م بحُجَّة أنه نص على أن اعتبار الشريعة الإسلامية مصدر رئيس للتشريع وليس المصدر الوحيد حسب زعمهم..
هذه الازدواجية في المواقف والنفعية الفجة أضاعت فرصا تاريخية لا أظنها تتكرر على الأقل في المستقبل المنظور كمدخل لبناء دولة ما بعد الثورة كي تبقى محل احترام وإجماع ، وفي اعتقادي أن أي سلطة تمسك بزمام الحكم تقع عليها مسؤولية ُسن إدارة سلطات الدولة بما يحفظ مقدراتها والعمل على كل ما من شأنه المساعدة في توحيد الرؤى والاجتهادات والجهود والتصورات لبناء هذه الدولة المنشودة، وتقديم النموذج المشرَّف في حُسن الإدارة سواءً كانت السلطة قائمة على التوافق بين القوى السياسية الفاعلة أو الشراكة بينها أو على التفرد، مع ملاحظة أن التوافق إذا قام على تقسيم مقدرات الدولة كغنيمة يضع متخذ القرار أمام مسؤولية تاريخية ومدنية وجنائية، وكلها لا تنتهي بالتقادم وعِبَرُ التاريخ كثيرة لمن يعتبر !.
أيها الفجر يا حُلمنا الأبدي
اعط مشنقة الميكرفون قليلاً من النوم.