في التاريخ الحديث والقديم عِبَر ومواعظُ كثيرةْ لمن أراد أن يعتبر ويتعظ، فمن البديهي أن كل إنسان مكلّف بإعمال عقله للعبرة والموعظة وامتلاك الحكمة، وبتأمل التاريخ نجد الحكام والساعين إلى الحكم هم أكثر الناس حاجة إلى الاتعاظ والعبرة، ومع ذلك فهم أقلهم بحثاً عنها أو هروباً منها أنّى وجدتْ، ومن الواضح أن سلوكهم هذا يعود لاستسلامهم لنشوة السلطة والحكم، والاعتماد على السطوة والغلبة والطغيان لترسيخ البقاء في مواقعهم غير مدركين أن ما فعلوه ويفعلوه إنما يؤدي إلى عكس مرادهم، ولهذا رأينا منهم نماذج وأمثلة مختلفة، فمنهم من ورث الحكم ومنهم من سطا عليه ومنهم من استولى على السلطة بالاستعانة بالخارج وارتكب أبشع الجرائم للوصول إليها، ثم اعتمد منهج التحايل والتضليل الإعلامي كي يبقى على الكرسي بل وحاول توريثه، ولكن الكثير منهم انتهى بالموت أو بالقتل ليتبين أن ظلمهم وبطشهم وفسادهم لم يؤد إلى ما سعوا إليه بل كان وبالاً عليهم وصارت ذكراهم أشبه بالسراب أو الكابوس إلا لدى بعض الواهمين أو من يغالطون الناس ويغالطون أنفسهم بالأكاذيب، وقد درجت مؤسسة الحكم على استخدام وسائل الإعلام المسمى بالرسمي وأدواته لمحاولة تخليد ذكرى الظلمة والفاسدين وتحويل ظلمهم وفسادهم إلى منجزات وكان هذا السلوك في العدوان على الوعي هو ما ورثناه عن مؤسسة الفساد الخالدة.
ومن الساعين إلى البقاء في الحكم من لم تساعدهم الظروف على تحقيق مرادهم، حيث انتهوا بعد فترة وجيزة من حكمهم، وسواء من طال بقاؤه أو قصر فإن مقياس الخلود ليس الزمن وليس الهالة الإعلامية ورفع الصور والألقاب والاعتماد على الذباب الإلكتروني في تضليل الناس وخداعهم، وإنما المقياس نوع الأعمال ونقاء الضمير، ومن يخدع الناس فإنما يخدع نفسه، فهذا السلوك لا علاقة له بالثورة وبالدولة العادلة ولكنه سلوك سلطوي سرعان ما ينتهي مهما طال بقاؤه !؛
هذا السلوك السلطوي الذي سرعان ما يسيطر على أغلب من يصل إلى السلطة بأي وسيلة بحاجة إلى دراسة ومراجعة فربما أدت هذه الدراسة والمراجعة لتأسيس نظرية (علم نفس التسلط!).
يستوي في هذا من يسعى إلى السلطة ويصل إليها باسم الدين أو على ظهر أي نظرية أو فلسفة كانت، فالسلطة هي السلطة والإنسان هو الإنسان إنما الفرق في مستوى التقوى لدى المتدين منهم ومستوى يقظة الضمير لدى غيره وكلاهما يؤديان إلى هدف واحد هو مستوى الإحساس بالمسؤولية، ولأن السلطة ليست إلا وسيلة لتحقيق العدل بين الناس وإدارة التوازن بين الحقوق والواجبات في المجتمع فإن معيار الخلود أو المرور كالسراب إنما هو مقدار حرص الحكام على البحث عن أفضل السبل لتحقيق العدل، وهنا يكمن السر الذي خَّلد بعض شخصيات الحكم في التاريخ رغم قصر مدة بقائهم حكاماً، لأن السلطة والجاه لم يكن همهم ومحا وجود من كانوا مثالاً للفساد والبطش وانعدام المسؤولية الذين طال أمدهم متشبثين بكرسي الحكم بكل الوسائل غير المشروعة لعقود، معتمدين على التضليل واستخدام الإعلام المضلل ونشر الصور والألقاب في الصحف والمجلات وتجنيد الإعلاميين والصحفيين المنافقين والمخادعين وهم أصدقاء كل مستبد والمتفننين في ابتكار وسائل الخداع والتضليل في كل زمان ومكان.
السلطة أشمل جريمة سرقة يتعامى عن مرتكبيها التاريخ السياسي وعلم الإجرام معاً، يعيش فيها اللص معززاً مكرماً على شكل حاكم، وأكثر الحكام لصوصية من يضيق ذرعاً بمن ينتقد أخطاءه من الكتاب تصريحاً أو تلميحاً، بل ويسعى إلى قمعهم بدلاً من الاستفادة من صريح القول ومحاولة استيضاح واستبطان ما ألمحوا إليه للاستفادة منه في إصلاح ما أعوج في حكمه، وكذا من يسعى إلى جعل سلطة القضاء ألعوبة بيده يوجهها أنّي شاء وكيفما يريد، وليس الكاتب المنافق والقاضي الدمية سوى أداة لشرعنة اللصوصية الحاكمة، ولهذا النوع من الكتاب والقضاة دورهم الفاعل في ترسيخ دعائم الفساد وتغذية عوامل عدم الاستقرار والأمن والسلام في المجتمع ولذلك فالحكام الشرفاء بمن فيهم المستبدين يحرصون على وجود القضاء العادل والقاضي النزيه والحازم !،
ومن أراد أن ينجو مما يسببه داء التسلط عليه أن يسعى بكل جد إلى تحويل التحدي إلى فرصة، أي إلى بذل الجهد في التمسك بالإحساس بالمسؤولية وبأن لا يصرفه بريق السلطة والوجاهة إلى ترسيخ مدة بقائه فيها عن طريق البطش والاستهانة بالدماء والأعراض والأموال، وسيدرك ولو بعد حين حقيقة الحكمة القائلة (يؤخذ المرء من مأمنه) فليست العبرة بمدة البقاء في السلطة بل بما يقدمه الحاكم من أعمال إيجابية لصالح المجتمع تخلده لأن السلطة بدون إحساس بالمسؤولية أقرب إلى الجحيم، والعبرة كذلك بدوام إيقاظ الضمير ومتابعة الآراء الناقدة والآراء الصادقة للأخذ بما فيها من فائدة، وسرعة تصحيح الأخطاء والرجوع إلى الحق وعدم الاستماع للمنافقين بمعنى عدم العمل بما يقولون والسعي بجد وحزم لتحقيق العدل، والله غالب على أمره ولو كره الظالمون !.
هذا هو النفط يلهو في شوارعنا
ورمز بلقيس يُسقي الغاب من دمنا