تمر اليمن بحركة تبدل وتغير منذ عام 2011م وحتى اليوم الذي تشهد فيه عدواناً سعودياً غاشماً أحدث فيها تمايزاً وتفكيكاً للبنى التقليدية , سواءً الاجتماعية منها أو السياسية , ومثل ذلك طرح سؤالاً جوهرياً ظل عائماً في المسارات والمآلات بعد أن قال قادة حركة 2011م بسقوط الإيديولوجيا , والقول بسقوط الأيديولوجيا كان سبباً مباشراً في حركة المجتمع في سبتمبر2014م التي جاءت على أنقاض القائلين بسقوط الإيديولوجيا , في 2011م .
لم تكن ثورة ( 21 سبتمبر 2014م ) إلا تعبيراً حقيقياً عن واقع يتطلع إلى الانتقال بعد أن دلّت التجربة لأحزاب اللقاء المشترك على الفشل وامتداد الماضي في صميم تجربتهم التي تنازعتها مفاهيم الغنيمة والاقتصاد الريعي وغياب المشروع الوطني الحضاري والثقافي والاقتصادي وعلى الثبات .
والمتأمل في اللحظة السياسية التي تمر بها اليمن يدرك أن جدلية الحالة الانتقالية التشريعية أصبحت تفرض ضروراتها الموضوعية على الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي والاقتصادي، فالتلازم بين الأبعاد المختلفة تلازم ضرورة واحتياج وتكامل ولكل بعد تأثيراته المباشرة وغير المباشرة , وإدراك العلائق وتأثيراتها وتلازماتها يعمل على إحداث التوازن النفسي والاجتماعي للأفراد ويساهم بقدر في الحالة الانتقالية التشريعية ويكفل لها قدراً من التناغم مع تطلعات الأفراد والجماعات , ويحقق القدر المناسب من الشعور بالقيمة والفاعلية ولذلك فالشارع اليمني حين انتفض في ثورة 21 سبتمبر 2014 م لم يقم بسلوك اعتباطي ولكنه سلوك فرضته حالة الانتقال السريعة المتوافقة مع إيقاع المرحلة بعد أن مرّ بالمرحلة العسكرية (1962م – 2011 م) والمرحلة اللاهوتية العائمة (2011م – 2014 م ) وهو الآن يحث الخطى إلى الحالة الوضعية والصناعية , حالة الانعتاق من رقّ الحاجة والتفاعل مع اقتصاد السوق وبحيث تتوافر في تفاعلاته طاقة تعمل على إنتاج نظام اقتصادي / اجتماعي متوازن يكفل وجود الجميع , ويعترف بالكل ولا يحاول إقصاء أحد في ظل دولة وطنية قوية وقادرة , فالرؤية الوطنية القائمة على تحليل الواقع وفق منطق رياضي خوارزمي واضح القياس من أجل البناء من مؤشرات الانتقال إلى الحالة العقلية والوضعية والصناعية .
القضية لم تعد في شكل الدولة أو شكل النظام بل تكاد تكون قد تجاوزتهما، إذ أن أكثر ما يهدد المجتمعات في الوقت الذي نعيش فيه هو حالات الانقسام وحالات التشظي في ظل ما تشهده المجتمعات من تحيزات فكرية ومن تخندق وادعاءات في امتلاك الحقيقة، ومن مشاعر الانتقاص وفقدان القيمة للآخر، ومن تسفيه المعتقدات والآراء …, والقارئ الممعن يجد أن ثمة جماعات تتربص بمن يخالفها الدوائر , وثمة جماعات ترى أن الإسلام في التفجيرات والعبوات الناسفة، وفي استهداف مصالح الناس العامة.
كما أن حالة من حالات التفكك تكاد أن تكون قد وصلت إلى الجماعات المتجانسة، فالذين يرون جواز فتح عيادات التداوي بالقرآن أو عيادات التداوي بالسنة هناك من يرى تحريمها ويرى تحريم حالات التكفف وفرش الشيلان أو وضع المحصلات لدعم حلقات تحفيظ القرآن في حين يرى فريق من ذات الجماعة جواز ذلك، ومثل ذلك الجدل نتيجة طبيعية لحالات الفرز والتمايز الثقافي والاجتماعي التي بالضرورة قد تفضي إلى التعدد .
ونحن ندرك أن حزب النور السلفي في مصر كان جزءاً من حركة الإخوان وأصبح الآن كياناً مستقلاً، ومثل حزب النور حزب الرشاد في اليمن الذي أصبح كيانا مستقلا وقد كان جزءا من الإخوان , ومثال آخر هو الحراك الجنوبي الذي يعاني الانقسام والتعدد في الكيانات وفي المنطلقات، فالمشهد السياسي والاجتماعي والثقافي لم يعد كما كان وبالتالي فالتفاعل معه بالأدوات والوسائل والآليات القديمة أصبح ضرباً من المستحيل..
فالسياسي الذي ذهب إلى مناخات الربيع العربي بشعارات ثورية وشعارات تحررية وشعارات مكافحة الفساد والتداول السلمي للسلطة كان يبطن في كوامن نفسه الوصول إلى السلطة تحت مبرر القاعدة البراغماتية (الغاية تبرر الوسيلة) ولكنه بمجرد أن وصل إلى غاياته وأهدافه السياسية انقلب على عقبيه وأراد أن يفسح لتجارب الماضي كي تتكرر في واقعه فلم يستمر أمده طويلاً حتى وجد نفسه يغرد خارج سرب الربيع العربي ولم يدرك انه بشعاراته وبمظلاته الثورية قد ساهم في تفكيك البنى الثقافية والاجتماعية المساندة للاستبداد وأنه أصبح يتعامل مع واقع أكثر تعدداً وأكثر تمايزاً ولا يمكنه أن يكون فيه حاكماً مطلقاً أبداً .
لقد كنا نسمع بالأمس القريب مثلاً أن الحاكم العربي المستبد يهيمن على أدوات السلطة فالقوة بيده, والمال بيده, والإعلام بيده ,ومثل تلك التبريرات ظلت ردحاً من الزمن حتى ماج الربيع واستيقظت الشعوب فإذا الجيوش لا تكاد تدفع عن الحكام شيئاً وظل تدفق الجماهير إلى الشوارع هو الأقوى والأكثر فاعلية …, وتمايز الناس فأصبحوا جماعات وكيانات وأحزاباً وأصبح كل أولئك يملكون المال ,ويملكون الإعلام ,وما نكاد نرى جماعة دون أن يكون لها وسيلة إعلامية، فالكل أصبح يملك المال والإعلام وأصبح التعدد سمة مرحلة ما بعد عام 2011م , وحين تتمايز الجماعات والكيانات وتصبح ذات وجود وذات نفوذ وقوة وذات مال وإعلام لا يمكن التعامل مع مجالاتها الانتقالية والمتغايرة الجديدة بنفس الثقافة القديمة، بل قد يصبح الاعتراف بالتعدد وبحقه في الوجود والتمثيل وفي صناعة التاريخ شرطاً جوهرياً وأساسياً في الاستمرار.
وقضيتنا اليوم هي الوصول إلى وحدة إنسانية مشتركة ولا نستطيع ذلك إلا من خلال الفنون , وقد يشكل الاحتفال بالمولد النبوي ركيزة أساسية للوصول إلى ذلك، فالمولد لا يعني تظاهرات شكلية، ولكنه يعني مساراً ونسقاً ثقافياً يعيد ترتيب النظام العام والطبيعي ويعيد البناء لمواجهة العدو الذي يتربص بنا الدوائر وغاية مقاصده تفكيك البنى الثقافية وفصل الأمة عن رموزها ومرجعياتها الفكرية والثقافية والإيمانية حتى يسهل عليه فرض ثنائية الهيمنة والخضوع عليها وقد فعل ذلك بالقياس إلى حركة التطبيع التي تجري مع الكثير من الأنظمة العربية اليوم في عموم الوطن العربي .