سبق لي القول أن الثورة بقدر حاجتها إلى الطاقة الانفعالية في لحظة التكون والتشكل فإنها أكثر حاجة إلى الحكمة والتبصر والبصيرة والوعي بالتاريخ, ذلك أن الطاقة الانفعالية تفقد سيطرتها في اللحظات الصادمة ولا يمكنها صناعة الغد لفقدانها القدرة على تهيئة المناخات الملائمة له في راهنها.
إننا حين نتحدث عن ثورة سلمية تحمل تباشير المستقبل وتعيد صياغة لحظتها وفق متطلبات جديدة وعصرية فإننا نتحدث بالضرورة عن قيم جديدة وأدوات جديدة ولغة جديدة ومنطق جديد يتجاوز الماضي ليصنع ذاته هو , ولا يمكنه أن يجترَّ قيم الماضي ولا صراعاته , ولذلك لا بد أن تحضر قيم الثورة ومفرداتها من السلمية والتسامح والتعايش وحق الآخر وخياراته وحريته في التعبير عن ذاته .
كما أننا حين نتحدث عن تغيير نظام فإننا حتماً لا نتحدث عن تغيير سلطة التي هي جزء من مفرداته, ولكننا نتحدث عن نظامٍ جديد ودستور جديد, وحياة جديدة , وواقعٍ أجد يتجاوز كل مفردات الاستبداد ليصنع ألقاً حضارياً عصرياً يعيد المجد للأمة اليمنية التي عانت الويلات والصراعات والانقسامات وآن لها أن تستعيد وعيها بذاتها وبتاريخها وثقافتها وحضارتها لتصنع من ذلك التراكم الحضاري يمناً جديدا .
أما استبدال وجه بوجه من مفردات ومعطيات الجيل القديم وبقاء مظاهر الاختلالات ودوافع الفساد, ففي ظني أن ذلك لا يشكل مطلباً حيوياً لشباب التغيير, ذلك لأن شباب التغيير في لحظتهم الحضارية الراهنة, رقصت بين أناملهم فرصتهم التاريخية ليساهموا في صناعة التاريخ ويصبغونه بصبغتهم وثقافتهم وحداثتهم وهويتهم الدالة عليهم لا تلك التي تومئ إلى غيرهم.
وثمة منطلق فكري يجب أن تستلهمه ثورة التغيير من ثورة الإسلام الكبرى وهو القول أن كل شيء يمت إلى الماضي فهو موضوع , والمنطلق الآخر هو القول بأن الإسلام يجبُّ ما قبله.., إذ لا يجب أن نأخذ الآخرين بجرائر الماضي إذا أرادوا أن يتطهروا منه, ومن أدرانه.. تأكيداً للروح السلمية ولقيم التسامح والتعايش والمحبة والوئام, وطمساً لبواعث الكراهية والخصام والشقاق, وإشاعة لروح الإيثار والتعاون والتكافل التي تجسدت في المجتمع المدني الأول في يثرب, وكانت نتيجة لمقدمات منطقية غفل عنها الفكر السياسي الإسلامي ,فعانى المجتمع الإسلامي لغيابها ما عانى من الظلم والإقصاء والاستبداد وطغيان الأفراد والجماعات والكيانات على بعضها في مراحل مختلفة من التاريخ .
ومع انبلاج تباشير حركة التجديد التي تعمُّ العالم الإسلامي الآن مصداقاً لقوله عليه الصلاة والسلام “إن الله يبعث على رأس كل قرن من الزمان لهذه الأمة من يجدِّدُ لها أمر دينها”, فإننا نتمنى على أولئك الذين يشتغلون على القيم الإنسانية والدينية بالبحث والتأصيل أن يقرؤوا الإسلام قراءة واعية ومدركة, وأن يستلهموا فيه الروح المدنية الحديثة فقد كان تأريخه ونصوصه وفقهه الأخلاقي والسياسي تجسيداً لها ,ودالا عليها, وموجباً لتمثلها .
إذ ثمة ظاهرة تبرز في حياتنا وتحاول تأصيل نفسها كنسقٍ يأخذ حكم العادة والعرف, دون أن نوليها القدر الكافي من القراءة والتمحيص.., وذلك قبل أن تفسد في حياتنا ما نحتاج في إصلاحه إلى الأمد الطويل.
من تلك الظواهر التي بدأت تتشكل وتتمظهر في حياتنا , ما نلاحظه من الانفلات الأخلاقي وعدم تقدير المسؤولية أو استخدام المسؤولية لتصفية الحسابات مع الآخر , ولعل أشد أولئك وطأة بروز الذات وتمظهرها وغياب الموضوع / الوطن من كل شيء وفعل وسلوك وممارسة .
وإذا كنا نلحظ بروز الذات كخيار سايكولوجي منذ هابيل وقابيل كفناء وإلغاء في مقابل التضخم، إلا أن هناك وازعاً تواضع الناس عليه وأصبح ضابطاً أخلاقياً وربما شرائعياً أو عرفياً حدَّ بقدر ما من تسلط (الآنا) وتجبرها في محاولة إلغاء الآخر.., ومع تماهي مثل ذلك الضابط وذوبانه في المفاهيم الغائمة تصبح الحياة غابة لا يمكث الأضعف فيها إلا أمداً قصيراً, لأنه واقع تحت أنياب الأقوى الذي تسيطر عليه أدوات الشر ومظاهر القوة فيعيث في الأرض فساداً .
وإذا كنا ننكر على الآخر تسلطه وطغيانه وربما جبروته إلا أن المنكر قد لا يتورع عن ذات الفعل والسلوك إذا توفرت له الدوافع والأسباب وتهيأت له المناخات, ذلك لأننا نصدر عن طبيعة واحدة, وربما أحدثت البيئة الثقافة في عوالمنا النفسية ذات الاتجاه, ولو كان مخزوناً في لحظات معينة لأسباب موضوعية في اللاوعي , ولعل مثل هذه الحقيقة قد أدركها المتنبي مبكراً حيث قال :
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلةٍ لا يظلم ُ
إذاً فالمعادلة الأصعب تبدو في النفس كقوة قاهرة ومقهورة , ظالمة ومظلومة , متسلِّطة ومتسلَّط عليها, وبحسب ما يتهيأ لها, أو يقع تحت نطاق رعايتها, وقد تتفاوت المراتب والظواهر من بيئة مجتمعية إلى أخرى تبعاً لمراتب الوعي والمناخات الثقافية السائدة, بيد أن المجتمعات البدائية أقرب إلى الصراع الهابيلي والقابيلي, حيث أن فناء الآخر يصبح مطلباً غرائزياً , إذ أنها لا تتعامل مع البدائل التي تشبع الغريزة وترفض الفناء كمطلق, كما يحدث في بعض الأنظمة التي جاءت من عمق النسق الثقافي والاجتماعي وتوافقت مع المكون التراكمي والثقافي وأصبحت تعبيراً عنه لا طارئة عليه, وبذلك يحدث ما يشبه الانسجام والتواؤم بينها وبين أفراد شعبها , وقد نلاحظ احترامها لهويتها التي درجت عليها دون تمايز أو طبقية وربما كانت على تناقض تام مع الأنظمة الثورية التي ترى في الآخر ضداً مهدداً لوجودها , فكان تعاطيها مع مفردات الواقع وفق الفكر الوجودي الهابيلي والقابيلي وبذلك فإن الصراع كان سمة غالبة تجلى ذلك الصراع في شعور الآخر بتهديد هويته الثقافية وطغيان الآخر وتسلطه وبمغايرته للنسق الثقافي الجمعي التراكمي فكان وجود التنظيمات السرية تعويضاً للذات أو انتصاراً لمقدراتها وتأريخها ويمكن قياس ذلك على الحالة اليمنية منذ النصف الثاني للقرن الماضي وحتى الآن.
لذلك فالوعي بالتاريخ ضرورة حتى نجتاز عثراته .