عندما كانت النيران تنتشر شيئاً فشيئاً في أرجاء المنزل، كان صاحبه المصاب بفوبيا انتشار الحشرات منشغلاً بملاحقة صرصور لعين، مخاوفه جعلته يرى الصرصور ويعمى عن الدخان واللهب، فالتهمته النار والتهمت الصرصور.. والتهمت المنزل.
وعندما كان المدرسون يجهزون امتحانات كريهة من العيار الثقيل، كان الطالب المصاب بفوبيا الأرقام منشغلاً بمذاكرة مادة الرياضيات فقط، حيث صب كل جهده وتركيزه عليها وتغافل عن بقية المواد بذريعة أنها سهلة، فانتهى به الأمر ناجحاً في مادة الرياضيات، وراسباً في عدة مواد أخرى، وعالقاً في نفس الصف طبعاً.
هكذا نحن البشر.. ننشغل بأشياء معينة ونعطيها أكبر من حجمها، بينما ينخر السوس بين عظامنا دون أن نشعر.. ثم نتفاجأ بانهيارنا ونتمتم: هذا اللي ما حسبنا حسابه.. أيوه، هذا اللي ما حسبت حسابه يا فالح!
كل الأطباء والعلماء اليوم يبحثون عن دواء يقضي على كورونا.. في حين ينتشر داء «الانتهازية» ويضربنا بشكل أبشع وأفظع.
«الانتهازية» ليست خُلُقاً ذميماً أو عادة قبيحة، إنها داء خطير يفتك بكافة الأجهزة الحيوية في البشرية بأكملها. إننا بحاجة ماسة لدواء يقضي على هذا المرض، ولن نرى خيراً إلا بالتخلص منه.
ومن أوضح صور الانتهازية في وقتنا الراهن ذلك الأبرص المدعو «دونالد ترامب»، الذي يعتقد أن الكون بكله مخلوق من أجل خدمته وتحقيق رغباته ونزعاته الحقيرة المقززة.
مصلحة الأمريكيين ليست ضمن قائمة تلك الرغبات، حتى مصلحة النظام الأمريكي الإمبريالي الذي أوصله للسلطة لا تهمه نهائياً.. فهو «انتهازي» ومصلحته فوق الجميع.
طوال ليل الأربعاء الماضي وأنصاره كالأثوار الهائجة يقتحمون كل مكان ويدمرون كل شيء، وقد سُفكت الكثير من الدماء في تلك الليلة الترامبية الغبراء دفاعاً عن كرسي «ترامب»، وهو بدوره يلقي عليهم خطابات إخوانية كرمانية من قبيل: «لن نستسلم، لن نخضع، لن نقبل بالهزيمة»، والمساكين يتحمسون ويركضون لاحتضان الموت.
ثم يستيقظ صباح اليوم التالي ليصرح بأنه سيقوم بتسليم السلطة سلمياً وبكل رضا وقبول.
هذه الانتهازية بعينها.. وهي الانتهازية ذاتها التي مارسها الإخوان المتأسلمون في «11 فبراير» على الشباب المندفع، ثم تسلموا السلطة وأكلوا الأخضر واليابس.. ليهاجروا بعدها إلى تركيا لافتتاح القنوات الفضائية والمطاعم، تاركين خلفهم سيولاً من الدماء.
أنا لست هنا لتلميع أحد، ولست ممن يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم، ولذلك لن أنكر أننا في القطب المناهض للاستكبار نعاني من مرض الانتهازية الذي ضرب مسؤولين كباراً من المحسوبين على الأنصار وغيرهم.
مثلاً عندما يطلق الناس لقباً ساخراً على أحد المسؤولين فاعلم أنه انتهز منصبه وسخره لمصالحه الشخصية من دون الشعب.
والمشكلة لدينا أعمق وأكبر.. لأنك لو فكرت بانتقاد انتهازي ما فإن جحافل المطبلين سيتصدون لك على الفور، ويقولون لك مستنكرين إن هذا الرجل الذي انتقدته يصلي الفجر يومياً في جماعة، وهم لا يفهمون أبداً أن الصلاة ليست معياراً للكفاءة ولا للنزاهة، فكم من طاغية أموي وعباسي كان يؤم الناس في كل الفروض.
كما أن الانتهازية أيها القارئ العزيز تصيب الدول والأشخاص.. مثل ذلك الموظف الذي يمدح عبقرية المدير ويقدسه ويتمسح عرضه طوال الوقت.. وما إن يستقيل المدير ويترك العمل حتى يتحول إلى فاشل وجاهل وعديم فائدة بنظر الموظف ذاته.. هذا الموظف مصاب بحالة انتهازية نفاقية متقدمة جداً.
أتمنى أن نجد عقاراً لمعالجة هذا الوباء الخطير، علاجاً كيميائياً مادياً بعيداً عن محاضرات الأخلاق والفضيلة التي لم تقطع معهم، مثلاً إبرة نضربها في مؤخرة «ترامب» فيتحول من مسخ غير سوي إلى إنسان سوي.
لولا «الانتهازية» لما اخترع الانتهازيون «كوفيد 19» وغيره من الفيروسات في معامل الحروب البيولوجية، لهذا بالضبط نحتاج علاجاً للانتهازية وليس للفيروسات التي كلما وجدنا علاجاً لأحدها اخترعوا آخر، ما لم فإنها ستقضي علينا جميعاً، وسيأتي «كوفيد 999» والبشرية عالقة في الحضيض.
* نقلا عن : لا ميديا