كي يبرهن اليمنيون على كونهم أهل إيمان وحكمة لابد أن يدركوا أن وضعهم الإنساني ووضع وطنهم بات شديد الخطورة والإلحاح بضرورة التفكير الجاد في مصالحة وطنية حقيقية لا تستثني أحداً ، ليس بمفهوم تقاسم المصالح غير المشروعة بين عصابات السياسة المستقوين بأعداء اليمن وإنما بمفهوم واعٍ للموازنة بين العدالة والمساواة لا يدركه إلا من يستوعب جوهر الوطنية وروح الإسلام ، وهذا يأتي عبر الفهم السليم لـ (المصالحة الوطنية التي لا تستثني أحداً) ودون تجاهل العدوان القذر والتعامي عن تبعاته الدينية والقانونية والأخلاقية لأن المستشرسين من أصحاب المصالح المتوحشة من كل الجهات والاتجاهات أثبتوا بالسلوك أن لديهم درجة عالية من الجشع والشراهة أعمتهم عن أي نوع من العلاقة الإنسانية والإخاء ودفعتهم نحو الانقياد لشراهتهم وروابطهم الأسرية فتناسوا قرابة العدالة للتقوى رغم حديثهم المستمر عنها وبكل مظاهر الخشوع التي لا تتجاوز القشور ما يبعدهم كثيراً عن المقولة الكريمة للإمام علي كرم الله وجهه : (الإنسان إما أخ لك في الدين أو نظيرٌ لك في الخلق) وهي مقولة تخالف سلوك البعض الذي تغلبت عليه قرابة الدم وتتحكم في سلوكه عصبية الجاهلية في أبشع صورها وتبعد الإسلام عن عالميته وإنسانيته .
والمصالحة الوطنية المطلوبة بإلحاح للتعايش مع العالم تتطلب يقظة تحترم قيم الدين الإنسانية وتبعده عن أي محاولة لجعله مطية للغرائز بكل صورها وأشكالها.
خطورة الوضع الذي أججه كل هذا الكم من الغرائز يتطلب صحوة سريعة لكل اليمنيين الذين أوتوا الحكمة والإيمان!، المصالحة الوطنية المطلوبة المهيأة للانطلاق نحو العالمية لابد أن تكون بحجم الوطن أولاً وليس بأي حجم سياسي أو مذهبي ضيق وكل الحسابات السياسية يجب أن ترقى إلى الحسابات الوطنية كمنطلق للتعايش والاحترام ، هذا هو النهج الذي ينسجم مع الدين الحقيقي.
الانتماء الوطني قطرة من بحر المفهوم الديني الإنساني الذي يقوم على حب الوطن ، فالدين كرؤية كونية لا يقبل مطلقاً أن يختزل لأي رؤية ضيقة تبعده عن إنسانيته أو تقلل من افقها الواسع ! ومحور الإنسانية والوطنية الحقيقية هو العدالة ، ولعل جانب مما يميزها عن المساواة هو الفرق بين المضمون والشكل وبين العدالة في الدنيا التي يُفترض أن المنظومة العدلية مناطٌ بها تحقيقها ، فعدالة الدنيا التي يسند إلى السلطة القضائية تحقيق الجزء الأبرز منها هي عدالة شكلية تلتزم بتطبيقها وفق القواعد المرسومة في مختلف القوانين والتشريعات ومعنى الشكلية هنا هو أنها تطبق على الناس كافة وبدقة لا بد أن تخضع للمراقبة الدنيوية عبر القواعد والإجراءات المعروفة.
والمصالحة الوطنية غير القابلة للاهتزاز هي المصالحة الحقيقية التي يصنعها أو يقبل بها أي مواطن سليم العقل والفكر والضمير وهذا المواطن هو من يرفض أن يتحكم بعقله وضميره أي شكل من أشكال العصبيات ، صحيح أن هذا التوصيف قد يبدو مثالياً ولكن المطلوب هو بذل الجهد الممكن للوصول إلى المقدار المناسب من هذه الرؤية المثالية وهو جهد لا بد أن يخضع للتقييم والتقويم المستمرين وفق المعايير والأسس التي تشكل ما تواضع عليه الناس كحد أدنى للتعايش المطلوب الذي يمكن أن يتطور وينمو بتطور ونمو الحياة الإنسانية وبالنقد والمراجعة المستمرة بوعي وإدراك وإيمان والبعد عن الأهواء والأمزجة والخلط بين ما هو لله وما هو لخلق الله وبين طاعة الخالق المطلقة وطاعة المخلوق المقيدة.
(إذا الله أحيا أمةً لن يردَّها
إلى الموتِ قهارٌ ولا متجبرُ
رجالُ الغد المأمول إنا بحاجة
إلى قادةٍ تبني وشعبِ يعمِّرُ
رجالُ الغدِ المأمول إنّا بحاجةٍ
إلى عالِمٍ يدري وعلمِ يُقَرَّرُ) *
(من قصيدة شاعر النيل حافظ إبراهيم أطلَّ على الأكوان والخلقُ تنظرُ)