بمناسبة الشهر الكريم، سأحاولُ التدوينَ في غير السياسة وليس بعيدًا عنها، التدوينُ عن الدين بالمعنى الاجتماعي الوظيفي، بمعنى آخر عن موقع الدين في العالم المعاصِر ودوره في الصراعات الإقليمية والمحلية، وعن الفرضيات التي ظلت سائدةً كمسلَّمات لفترة طويلة وتحتاجُ لإلغاء طابعِها المقدَّس عن العلمنة..
وفرضيةُ الأفول التدريجي للمقدَّس الديني وملاحظات على حركات الإسلام السياسي والدولة القومية والمدنية وغيرها من الأسئلة الكبرى التي تتولد من رحمِ الاضطرابات وتقذفُ بها الصراعاتُ إلى الواجهة المتعلقة بمستقبل المجتمع والدين والسياسة.
من ذلك الفرضية التي تقول: إن الدينَ لم يعد له تأثيرٌ في توجيه السلوك السياسي لشعوب ودول الغرب، وعلى العكس من ذلك دول وشعوب الشرق الإسلامي، حَيثُ الدين ما زال مصدراً رئيساً في تشكيلِ السلوك والوعي السياسي لهذه الشعوب وربطها بالصراعات، وهي فرضيةٌ لا يصدِّقُها واقعُ دول مثل بريطانيا وفرنسا وأمريكا.
في بريطانيا مثلاً الملكُ هو رئيسُ الكنيسة، ولا يجوزُ أن يعتليَ العرش كاثوليكي أَو لا ينتمى للكنيسة الأنغليكانية، ويضُمُّ مجلس اللوردات ٢٥ أسقفاً تعيِّنهم الكنيسة، ومجلسُ العموم يشرِفُ على تنظيم العبادة، وهناك مناصب مثل رئيس القضاة والمفتش العام يُشترَطُ أن يكونوا من أتباعِ الكنيسة والصليب العلم الرسمي.
في أمريكا رغم علمانية الدستور، يستخدمُ الرؤساءُ الأمريكان تبريراتٍ دينيةً لسياساتهم الداخلية والخارجية، وتقدم الحكومةُ بعضَ نفقاتٍ للمدارس والكليات الدينية، وتحرِّمُ تدريسَ نظرية التطور في المدارس العامة، وعيد الشكر عطلةٌ رسمية، وتعتبر الحركات الإنجيلية من أهمِّ اللوبيات المؤثرة في الانتخابات.
في فرنسا المعروفة بعِلمانيتها اللائكية الراديكالية، حاولت الثورةُ الفرنسية استئصالَ الوجود الكاثوليكي من الحياة السياسية إلَّا أن ردةَ الفعل أجبرت نابليون على مصالحةِ الكنيسة، كما أجبرت ضغوطُ الكنيسة الحكومةَ على سحب قانون علمنة التعليم الخَاصّ والتخلي عن مطلب إشراف الدولة على مدارس الكنيسة.
ويمكنُ حشدُ عشرات الأمثلة على أن الدينَ ما زال أحد مصادر التأثير في المجال العام في أُورُوبا وفي أمريكا اللاتينية واليسار اللاهوتي والحركات الإنجيلية التي نشطت مع الحرب الباردة والإسلامفوبيا.. لكن لا يعني أن موقعَ الدين لم يتغير فهناك فرقٌ بين المسحية كعقيدةٍ والكنيسة كمؤسّسة.