أثبتت مسقط السلام أنها وسيط مُحايد يمتلك فائضاً من القدرة على القيام بمساعٍ حميدة محل تقدير وثقة من قبل الأطراف المعنية بالوساطة، فقد كان الوسيط العُماني بما يملكه من مواصفات الحياد الإيجابي، ورصيد من الخبرة والتجارب الناجحة، عاملاً أساسياً في حل عدد من القضايا والملفات الحساسة في المنطقة، منها على سبيل المثال الدور المبكر في الملف النووي الإيراني، واستضافة مسقط لجولات مفاوضات سرية بين إيران والولايات المتحدة كُللت بتوقيع الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة (5+1) عام 2015، كما لا نستبعد في حال فشل محادثات فيينا الحالية من أجل عودة الولايات المتحدة للاتفاق النووي الذي انسحبت منه عام 2018 أن تستكمل مسقط جهود الوساطة السابقة وتكون المُنقذ للاتفاق النووي.
رغم صعوبة الملف اليمني إلا أن سلطنة عُمان مؤهلة أكثر من غيرها للقيام بدور الوسيط المُحايد الذي يمتلك فرصة نجاح كبيرة يُعززها حقيقة مفادها أنها ليست طرفاً في العدوان على اليمن كما هو حال الولايات المتحدة أو السعودية اللتين مهما حاولتا الظهور بمظهر الوسيط تظلان طرفاً مباشراً في العدوان غير مؤهل للوساطة وتقديم المبادرات، لذا كان للهزيمة العسكرية والفشل في تقمص دور الوسيط دور رئيسي في بروز الوساطة العُمانية التي ما كانت لتتم إلا بطلب من واشنطن والرياض، وترحيب من صنعاء يُجدد الثقة بالوسيط العُماني الذي يحظى بإجماع يمني وإقليمي ودولي، لاسيما مع استمرار فشل الدور الأممي، فالإحاطة الأخيرة التي قدمها ثالث مبعوث للأمم المتحدة إلى اليمن البريطاني مارتن غريفيتث إلى مجلس الأمن قبل مغادرة منصبه جاءت معبرة عن أكثر من 8 سنوات من المساعي الأممية المتعثرة نتيجة القصور في المهنية والسماح بالتدخلات الأمريكية - البريطانية لفرض الحلول على حساب السلام الحقيقي في اليمن.
في إطار الجولات المكوكية لجهود الوساطة التي تشمل نقل المواقف والمطالب والتقريب بين وجهات النظر للأطراف المعنية قام وفد المكتب السلطاني العُماني بمُهمة ناجحة إلى صنعاء استغرقت قُرابة أسبوع، أجرى فيها العديد من اللقاءات مع المسؤولين في الدولة، وعلى رأسها لقاؤه بقائد الثورة سماحة السيد عبدالملك الحوثي، ورئيس المجلس السياسي الأعلى مهدي المشاط. وفي اللقاءات استمع الوفد العُماني لرؤى وتصورات «صنعاء» في الجوانب الإنسانية والعسكرية والسياسية التي من شأنها إنهاء العدوان ورفع الحصار وخروج القوات الأجنبية، مع تأكيد رفضها للفهم القاصر لدى من يربطون الجانب الإنساني بالجانب السياسي، ويعتقدون أن إنهاء العدوان والحصار يُعد تنازلاً من قبل تحالف العدوان يقتضي مقايضة «صنعاء» وتحقيق مكاسب، فالمقايضة في ما تكفله التشريعات والقوانين الدولية من أبسط حقوق الإنسان يُعد سقوطاً أخلاقياً، حيث إن إنهاء العدوان وإعادة فتح مطار صنعاء الدولي وميناء الحديدة لا يعدو كونه مجرد وقف تحالف العدوان لجرائمه وانتهاكاته للقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، الأمر الذي يُعيد تمكين الشعب اليمني من مُمارسة حقوقه في السفر والحصول على الدواء والوقود، وغيرها من الحقوق التي كان يتمتع بها المواطن قبل شن العدوان.
وبذلك تكون «صنعاء» وعلى مدى سنوات العدوان وحتى الآن هي من تُقدم التضحيات والتنازلات من أجل السلام وليس الاستسلام الذي يعني وقف الصمود والتصدي للعدوان، لذا فالوقف الشامل لإطلاق النار وإعادة فتح مطار صنعاء الدولي أمام حركة الملاحة الجوية دون قيد أو شرط، بالإضافة لإعادة فتح ميناء الحديدة يأتي في إطار إجراءات بناء الثقة بين الأطراف، وتهيئة مناخات العملية التفاوضية بين الأطراف المعنية بما يُعيد الأمن والسلم لليمن والسعودية والمنطقة على مبدأ حُسن الجوار، وقاعدة «لا ضرر ولا ضرار».
التناقض بين رغبات وتوجهات واشنطن وأدواتها
تُدرك واشنطن أن السلام الحقيقي في اليمن يُشكل مأزقاً لها ولأدواتها، لذا فهي تُمارس سياسة الضغوط القصوى تجاه «صنعاء» كلما شعرت بذلك المأزق. وفي هذا الإطار تأتي التصريحات الأخيرة لوزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن ومبعوثه إلى اليمن تيموثي ليندر كينج لتُخاطب المجتمع الدولي شاكيةِ من «صنعاء» التي تُظهرها تلك التصريحات بمظهر الرافض للسلام، وتُحملها المسؤولية الرئيسية لما تُسميه رفض «الحوثيين» الانخراط الجاد من أجل وقف إطلاق النار، واتخاذ خطوات من أجل الحل.
هذا التصعيد الأمريكي تجاه «صنعاء» الرافضة لسياسة الإملاءات وفرض الرؤى الأمريكية لإحلال السلام في اليمن يأتي مدعوماً بسياسة العقوبات وإلصاق التُّهم التي تستخدمها واشنطن تجاه كل الدول التي تملك قرارها وترفض التدخل كالصين وروسيا وإيران، لذا لا غرابة أن تقوم واشنطن مرتين خلال شهر واحد باستخدام هذه السياسة العقيمة ضد «صنعاء»، حيث قامت في المرة الأولى بتصنيف عدد من قيادات «صنعاء» في قوائمها للإرهاب بحجة عرقلة جهود السلام في اليمن، وما تسميه استهدافاً لمأرب، وفي المرة الثانية قامت بفرض عقوبات على أشخاص بذريعة تقديم الدعم والتسهيلات المالية لمن تسميهم «الحوثيين».
مثل هذه التصريحات والإجراءات الصادرة عن واشنطن دليل على الإرهاب الذي تُمارسه، وتعكس صلابة «صنعاء» وموقفها الرافض للمقايضة والابتزاز الأمريكي الذي يسعى لتتويج عدوانه على اليمن بحلول سلام ترقيعية قاصرة لا تضمن سوى استمرار مصالحه وتدخلاته هو وأدواته (السعودية - الإماراتية) على حساب اليمن وحقوق أبنائه، كما تؤكد توجهات واشنطن التصعيدية صوابية التوجه والمشروع الذي تختطهُ «صنعاء» في معركتها للتحرر وإسقاط الوصاية.
توجهات الأدوات لا تختلف كثيراً عن توجهات واشنطن «المُشغل لها»، فقد ظهر مؤخراً مندوب السعودية لدى الأمم المتحدة عبدالله المعلمي في حالة انفصام وتناقض فج مع توجهات قيادة بلاده، ففي الوقت الذي يحاول فيه ولي العهد محمد بن سلمان خطب ود «صنعاء»، واصفاً مكون «أنصار الله» بأن لديه نزعة عروبية، يأتي مندوبه لدى الأمم المتحدة ليصف من يُطالبهم بالحوار «أنصار الله» بأنهم منظمة إرهابية، متجاهلاً حقيقة أن هذا المُكون أضحى أكبر المكونات وأبرزها حضوراً في المشهد اليمني، وهو من يقود الدولة ويحكم أكثر من 75 ٪ من سكان اليمن، لذا بقدر ما تعكس تلك التوصيفات والتُّهم حالة من التخبط في السياسة الخارجية السعودية تجاه صنعاء، لن تُضيف شيئاً لحقيقة الثقل الكبير الذي يُمثله مُكون «أنصار الله» محلياً وإقليمياً، وتوجهه الثابت في قيادته لمشروع اليمن النهضوي.
حكومة الرئيس المنتهية ولايته عبد ربه هادي هي الأخرى تعيش حالة إنكار للواقع ناجمة عن التغييب والجهل بتطورات المشهد اليمني، التي لا يُمكن لـ»وزراء هادي» رصدها وتحليلها من داخل فنادق الرياض وهم في حالة استجمام مُستمر. ويؤكد هذه الحالة التصريحات الأخيرة للمرتزق أحمد بن مبارك «وزير خارجية حكومة هادي» الذي لايزال عالقاً في شباك مصطلح المرجعيات الثلاث (المبادرة الخليجية، مخرجات مؤتمر الحوار الوطني، وقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2216) التي طالب بها في تصريحاته كأساس للحل، رغم إقرار المجتمع الدولي بواقع المعطيات الجديدة التي تجاوزت مصطلح المرجعيات الثلاث، ومطالبته بقرار أممي جديد يستجيب لتلك المستجدات، حيث من المُتوقع أن تكون بريطانيا حامل قلم ملف اليمن في مجلس الأمن الدولي قد أنجزت مسودة القرار، وبانتظار المخرجات النهائية لحراك مسقط الدبلوماسي بين الأطراف المعنية ليتم استيعابها في القرار المُزمع صدوره.
ختاماً، مسقط التي رفضت بالأمس طلب الرياض الانضمام لتحالف العدوان الذي تقوده على اليمن، تقبل اليوم طلب الرياض للقيام بدور الوسيط. وما كان لهذا الطلب السعودي أن يتم لولا الصمود المُتعاظم لـ«صنعاء» وإسقاطها لكل رهانات تحالف العدوان، وفي مقدمتها الرهان العسكري الذي كسر غرور الرياض ووضعها أمام خيارات محدودة، الأمر الذي اضطرها في نهاية المطاف للبحث عن حلول للخروج من مستنقعها في اليمن ولو باللجوء لوساطة من لا يتفق معها في سياساتها الخارجية. كما لا شك أن قبول مسقط القيام بدور الوسيط لم يكن من باب المجاملة للرياض وواشنطن أو حتى «صنعاء»، بل يأتي في إطار وجود فرصة سانحة للسلام تهيأت لها الأرضية المشتركة لمختلف الأطراف المعنية وبما يُمكن الوسيط العُماني من تقديم الدعم لإجراءات بناء الثقة، ونقل المواقف والمطالب، والتقريب بين وجهات النظر وصولاً لاتفاق يُحقق السلام العادل، لذا فاستكمال عوامل نجاح الوساطة العُمانية يرتبط بشكل رئيسي بسقف الجدية لدى الطرف المُعتدي ممثلاً بالرياض وواشنطن، ومدى القدرة على وقف انتهاكاتهما للقوانين الدولية الإنسانية، مع الوفاء بالتزاماتهما وفق ما يتم من تفاهمات واتفاقات، بالإضافة للتسليم بحقيقة أن ما عجز تحالف العدوان على اليمن عن تحقيقه بالترسانة العسكرية الضخمة وجحافل المرتزقة هو أكثر بُعداً عن النيل بالسياسة والدبلوماسية وشعارات السلام الزائف.
* نقلا عن : لا ميديا