فؤاد العرشي شاعر من خولان صنعاء. ناقد ولغوي ومهتم بالأدب. يكتب القصيدة الفصحى الحديثة بوعي وعمق. له قصائد كثيرة ومجموعات شعرية نشر منها في الصحف والمجلات. وله إسهامات نقدية في الشعر والقصة، وقد اطلعت على بعضها. إنه يجيد توضيف الرمز بصورة مختزنة ومختزلة لمعان كبيرة، ويكتب بتكثيف عجيب وشعرية عالية لا تلبث أن تتفجر دهشة في ذهن القارئ، بمجرد المرور على المطلع، فما بالك بالتعمق في نصوصه الجميلة والعبقرية؟!
"يتساءل العراف والبهلول والثوب المهلهل والتميمة". في هذا السطر يتساءل أربع شخصيات عن شيء ما! لم يذكر الشاعر صيغة التساؤل، ولكنه ذكر أنهم يتساءلون، ومع ذلك فقد صور مشهد التساؤل من خلال شخصياته وهم:
"العراف"، وهو شخص يمارس قراءة الكف والفنجان وطالع النجوم، وشغوف بمعرفة أسماء الأمهات وساعات المواليد، وقد يخبر عن وجود علل في الأجساد، وله خبرة في عجن الطبائع وتمتين عجائن النفس وشتها ولمها وتمريغها بالشابورة المناسبة وخبزها، وقد يخبر بوقوع حروب وحدوث فيضانات وسقوط دول ونشوء دول، يرمي في اليوم ألف ودعة وسهم ويصيب منها البعض ويخطئ منها البعض.
"البهلول"، وهو شخص يعيش حالة ذهنية بين العقل وعقل الطفولة، لكن له ما يشبه النبوءات ويمارس العزلة كمتن، إلا أن المجتمع في باله، كما أنه يمارس الحياة الاجتماعية كهامش، لكن التفاصيل تشده، من آذاه حل عليه غضب، يعرف ماذا يدور في المكان، يفهم منطق الطبيعة، من تنبه لكلماته نال من حكمته، يسمونه المجذوب والبهلول.
"الثوب المهلهل"، زاهد حاضر بقوة في كل طبقات المجتمع والتيارات الدينية، ناشر المحبة والسلام، شفتاه تصفقان بالذكر كأنما روحه ترتعد من البرد، إذا اقترب منك توشك أن تقضى حاجتك وإن بالدعاء، غالباً ما ينضح الناس بالعطر، عيناه سريعتا الترقرق وفي الذكر يكاد يغشى عليه من الخشوع.
"التميمة"، كناية عن التدين الشعبي، أسير الخرافة والعرافة والدروشة وبرزخية الوعي، والذي يعلق على صدره كل أولئك نتاجهم الثقافي، ليس بيده التحرر منهم وهو لا يريد التحرر، ويحسب كل تغيير ردة، مع امتلاكه أدوات المعرفة والتغيير، إلا أنه لا يلج فيها، فإن ولج سبقت أذنيه صلصلة أجراس المجذوب وغشيت قلبه كوفية الدرويش، وأخذت عينيه خرائط العراف، كل صيحة يحيلها على مفاجآت الغسق، وكل رعشة يحيلها على زارات المس، وكل سقوط يحيله على عين الحاسد.
والآن وبعد استعراضنا لمنظومة فؤاد العرشي الرباعية لقراءة المشهد الاجتماعي الثقافي، هل نستطيع معرفة صيغة التساؤل الذي دار بينهم؟ ما نزال في عتبة النص، في بهو قصيدة "العراف"، في السطر الأول من المطلع، لكن دعونا نمضي خطوة خطوتين، سطرا سطرين، في قراءة هذه الأسطورة الشعرية التي اتخدت من الرمزية أبنية شعرية ذات أنساق قادمة من أقاصي الإنسان، لا يمكنك اقتحامها ما لم يكن لديك دراية بمنطق كل منها. لا بد أن يكون لديك دورة ثقافية إن لم تكن أكاديمية في مختلف التيارات الفلسفية وفي علم الفلك والجفر وفي الكهانة وعلم النفس والعقل الباطن وفلسفة تلقي الإشارات وفقه الأوراد وطقوس المقامات والتعامل مع هاجس الأحوال وأطوار الطبائع واستلهام الألطاف وعلم التدين الشعبي...
استطاع هذا الشاعر العرشي الهيمنة على كل تلك الطاقات المتفجرة، والجلوس على عرش البواطن المتوترة، وساق بعصاه أطيافا جمة كلها تتحدث بمنطق التجريد. إنها تنقش كلماتها في ألواح من الهواء، فأحاط بها بأصابع من خيال، في هذه اللغة الشعرية المضغوطة المنبثة معا، ولا يقدر على الإتيان بملكتها عفريت، نفريت... ويقول:
"فتحدث الأطياف تحكي قصةً
كُتبتْ على صدر الهواء كآهةٍ صارت بعتم الليل غيمة.
ما عاد للإبداع قيمة".
ومع كل تلك العبقرية يا فؤاد العرشي، ومع كل التجاهل والإهمال إزاء جمال إبداعك وبيانك الشعري الخلاق، إلا أننا لا نملك إلا أن نردد عبارتك المحفورة في نهدة/ آهة من المرمر على جدار الروح، سوداء توشك أن تلد شعرا فتلد أساطير، ونردد معك ومع أساطيرك: ما عاد للإبداع قيمة، ما عاد للإبداع قيمة!
"تتبخر الألوان كالأرواح إن قبضت". بعد تلك الخلطة الرباعية العجيبة المكونة من أعشاب العقل الشعبي، خرجت فراشات البخور من شرنقة الآهات في أعماق العرشي نحو متقد الشعر في مخيال العرشي أيضا، معلنة أطيافا من شغف الألوان، ألوان هي علوية مع سفلية منشئها، ومنبثة مع كثافة أجسامها، لذلك تتبخر كالأرواح، تبخر العطر للصلوات، والماء للغيمات.
"ولا يدري مكان اللون إلا الله أودعه القلوب المستقيمةْ". إن في قلوب البسطاء الأنقياء مكامن الجمال ومواضع أسرار الخالق.
"وكأنما الجدران شِعب
من دخان الجن، واللوحاتُ كوماً من رمادٍ
لا يرى إلا الهزيمة". لم أجد سريالية شعرية كهذه اللوحة، التي تصور الجدران الحية، أو حيوية الجدران بريشة خيال عبقري، مع كون الشاعر يرسم هذه اللوحات الأربع من غرفته المربعة، وكأنها جدران زجاحية في عمق النهر. وفي مقابل إحساس الشاعر عبدالله البردوني الذي قال:
"مثلما تعصر نهديها السحابة
تمطر الجدران صمتا وكآبة"
تفجرت جدران العرشي أطياف دخان جان وشعاب ومرجان. لوحة ذات أبعاد شلالة جعلت القارئ في البعد الخامس. أسمع أصوات ارتطامها باردة في أعماق روحي، لا، بل أراها كافتراق البحر يعبر في يبسه موسى يشيئها ببياض يده والتقامات عصاه، إلى ضفاف مقدسة، جدران أربعة كأنها برازخ، يطل من أحدها بهلول وثان عراف وثالث ذو الثوب المهلهل ورابع ذو التميمة. هذه المنظومة الخرافية القابعة في مسرح الماء، كأنما ينظر منها فؤاد كطفل شغوف في فوهة قنينة ممتلئة بالسائل البراق، أو كطفلة مغمضة تدغدغ الأحلام سائل عينيها. ومع كل هذا الجمال: "ما عاد للإبداع قيمة"!
العـــــــرّاف
يتساءل العرافُ والبهلولُ
والثوبُ المهلهلُ والتميمة
فتحدث الأطياف تحكي قصةً
كُتبتْ على صدر الهواء كآهةٍ صارت بعتم الليل غيمة
ما عاد للابداع قيمة
تتبخر الألوان كالأرواح إن قبضت
ولا يدري عن الألوان الا الله أودعها القلوب المستقيمةْ
وكأنما الجدران شِعبٌ
من دخان الجن، واللوحاتُ كوماً من رمادٍ
ذرّ في العين العقيمة
ما عاد للإبداع قيمة
ضاق المدى بالشعر والشعراءِ
يحملهم هنا بحر الخفيف قصيدةً
في علبة الكبريت
من ستين بيتا خاويا ومبللاً
وبقية الشعراءِ
في قبر ببطن الحوت
يسكن موجة الصحراءِ
تمحوه الرمال العابراتُ
بلا جريمة
ما عاد للإبداع قيمة
والمسرحُ المسجونُ باللعناتِ
بات سفينةَ الاشباحِ
تملؤهُ الخفافيشُ اللئيمةْ
وعناكبٌ من كلِ زاويةٍ
تدلَّتْ تشبهُ البندولَ صفراءٌ
بلا وقتٍ يحركها
سوى فخ الوليمةْ
والبومةُ الصماء قرصانٌ
بلا ساقٍ
تشيرُ لفرقةِ الفئرانِ بالعزفِ المطولِ
تنعق الغربانُ
رقصتها الأليمةْ
ما عاد للإنسان كالإبداع قيمة!
* نقلا عن : لا ميديا