سأعتبر مقالي هذا مقدمة لقراءة ديوانه هذا الغائب الذي لم أحصل على نسخة منه بعد.. لكني أحفظ بعضا من ومضاته في ذاكرتي.. وسأحاول من خلالها أن أعطي نبذة عن بعض خصائص محمد العابد في قصيدة النثر/ الومضة... التي ما تزال هي التيار الأدبي السائد والجديد منذ عقود إن لم أخطئ.. وأؤكد أن محمد العابد هو من مبدعي هذا الصنف الأدبي المدهش الكبار.
(1)
(هناك موت الفجأة
وهناك أناس الفجأة
قد تصبح شيئا
أو لا شيء فجأة
وقد تكتشف الأشياء فجأة
ولكن ليس هناك حياة فجأه.)
الفجأة في صورتها الذهنية عامة مريبة، واستثمارها في صورة ثقافية في الومضة جيد، فهي لا تدل على استقرار.. وقبل ذلك فالحياة من منظور قرآني أطوار ومراحل تكوين ونشأة... وبالمقابل فالموت يأتي بغتة.. في سياقات مختلفة.. قد يكون الثراء فجأة مثلا إحداها.. وفي المثل الشعبي "مخرب غلب ألف عمار".. وفي النص صور مضغوطة للفجأة كأنساق مضمرة.. فمثلما ان هناك موت الفجأة يقابله الطارئون أو أناس الفجأة.. التي قد تصبح شيئا أو لا شيء فجأة... لكن السقف العام لما يحدث.. أن لا حياة فجأة.. والمقصود أن ما يتم اتخاذه بدون تأهيل وترتيب وإنشاء في كل شؤون المجتمع والدولة لن يكون إلا الوجه الموازي للموت.. في إشارة بليغة تكاد تكون دستورا لمن يريد أن يحيا بالمعنى الحقيقي الذي تحمله الحياة بمفهومها المتجاوز للنمطية.. وأن الحياة هي أيضا بناء وتطوير وتنمية.. وأسلوب.. وبرامج.. وما سواها رديف الموت..
(2)
(ما أن تمر الثانية
أبحث عن الأولى
فتمضي ثانية
أبحث وما أدركت نفسي
في
الثوان
ليس لنا أوقات
أيتها الثواني)
اللعب على حيثيات اللغة كثير في اشتغالات العابد.. غير أنه كثير ذو قيمة عالية.. من جهة فيلولوجية وتعني تأصيلها من منظور جذري للفظ. ومن جهة فينومينولجية وتعني فهمه له من منظور معرفي خاص أو هو البسيط الممتنع.. على أن الإدراك من منظوره النصي ومعرفي ينصب حول المجرد في موسوعة العابد التجريدية الكثير من هذا القبيل فالإقلاع خارج مدار الأجسام في رحلة ميتافيزقية ديدن.. وتبقى فقط العودة من كل رحلة بحصيلة معرفية من شأنها أن تفصح عن شاعر جدير بالتجريد.. مع قدرة على تجسيد المعنى الواسع بأضيق عبارة.. إضافة إلى ذلك.. هذا وذاك والذي قبل ذاك أهم خصائص الشاعر محمد العابد.
(3)
(لكي أدرك الوقت
حاولت إطلالة
فلم
أجد
النافذة)
ومضات العابد تشبه لذة الاستيقاظ على شروق الشمس وزقزقة العصافير.. مبنية على إدهاش يشبه الفرح... وهو ما جعلها تبدو كلبنات ضمن مشروع شعري شاهق موسوم بهذا الغائب في حين أنه طاغي الحضور.. وقد لا تندرج ومضاته ضمن ما يسمى بالهايكو ولا بالقصيدة اليومية أو بالأحرى لا ترقيان إليه لأن الهايكو والحالة اليومية برمتها مبنية على المباشرة.. وبمنأى عن الصناعة.. إن العابد يستخدم في توقيعاته المجاز والخيال والتخييل.. مما يعطي نصه بصمة مميزة.. كما أن لديه مضمرات يمكن قراءتها على حدة.. وإن كنا سنقرأ شيئا منها.
(4)
(انظر كم
فكرة لمعت في رأسي
وأنت
لم
تفكر بعد.)
ردا مباغتا على من يسخر من الشيب... تحول بالبداهة إلى حكمة ما يؤكد ارتباط الشيب باكتمال العقل.. إن سرعة الجواب في هذا النص هي الشعر.. بعيدا عن معايير الشعر.. ومثلما الحال في الشعر الشعبي ومواقف مصادفة على هامش الحياة اليومية.. لكن أيضا بعيدا عن المقارنة والمشابهة.. فالبداهة لدى العرب لها شواهد كثيرة.. والخلاصة أن هذه البداهة كذلك من خصائص العابد جاءت في قالب نثري أو ومضة.. ناهيك عن تحول موقف إلى حكمة في قالب شعري.. أو سحري.. لكنا قلنا شعري اعتمادا على إن من الشعر لحكمة.. ولكنا أيضا قلنا سحري اعتمادا على إن من البيان لسحرا.
(5)
«في نافذة الهواء
حلم غامض
يسد الأفق الموازي إلى نصفين
من ساعة الصفر
على نحو تفكك ما بين جهات
تلتصق بنفسها عن بعد يحط عصفور»
يكتب العابد نصوصه بل وحتى ينظر للحياة ويمارسها من عدة زوايا: العرفان والتصوف والفلسفة والكلام.. وتأتي رؤاه في صور ظاهرة ومضمرة كهذا النص الفلسفي ذي النسق المضمر الرقمي كونه رياضي ممعن في فلسفة الأرقام.. وغائص في أنساق الميتافيزيقا والتجريد حدا يصعب تصور كيفية تجسيد ساعة الصفر على نحو تفكك ما بين الجهات.. غنوصية رقمية واعية ومن اللا وعي معا.. بمنطق الشعر وبمنطق الشاعر.. وبمنطق التلقي.
(6)
«النون.. حرف عظيم
يسيء إليه البعض
عندما يضعونه
بين ألِفين»
سنتأمل خلال نص النون الدلالات الصوفية... وفيه دعوة إلى المحبة والترفع عن النرجسية والتواضع.... وهذا البعد الصوفي يقترن مع نص آخر ذي بعد ثوري سنورده بالتالي ليشكلا صورة ذات بعدين صوفي وثوري.. ما يؤكد إمكان أن يكون الصوفي مع كونه داعيا للمحبة والسلام ثائرا مما يعني أن للصوفية أثرا إيجابيا في الواقع الاجتماعي وتأثيرا فعالا في الواقع السياسي.. وليس كما يحكى من أنه منطو وخارج نطاق الحياة الاجتماعية والسياسية..
(7)
"هيا نخبئ النهار
ونحبئ المسافات والظلال
هيا نخبئ أمنيات وأحلاما
هيا نخبئها في العلن
ونصنع منها اليوم الذي نريد".
هذا النص صلبناه فوق باب خيمتنا في ساحة التغيير في 2011 م. وإن كان كتبه محمد العابد قبلها بسنوات لكنه يكتنز نبوءة بل نبوءات لما سيحدث في السنوات اللاحقة.. ونكاد نرفعه عنوانا إلى اليوم وقد فعلنا ذلك وكان معبرا عنا ونستمد منه حماسنا في مرحلة الثورة للتغيير.. لأن فيه صدق ويحمل طاقات ومضامين بعض أهدافنا.. نص عابر وإن كان ومضة إلا أنها كعصا مضيئة تشق الأفق المظلم وتمضي بالشغف نحو الأنوار تاركة البحر رهوا.. فإن طغاة خلفها مغرقون.. هيا نخبئ النهار في العلن.. ونخبئ المسافات والظلال وصناعة اليوم الذي يريد من كل ذلك... هذه الحياكة النسقية المتعالية في التجريد والمتضافرة في الظهور كبنى شعرية ممعنة في المتانة.. بشحناتها المعلنة عن قوة الإرادة. و "هيا" المكررة ثلاثا كأنها تنشد مقطوعات من أغاني المحاربين القدامى في هذا الصدد المكتوب بتصور منهجي.. لبراديغما التغيير.. مجسدا في أنشودة شعرية ولا شعرية تكاد بنبؤاتها تمطر.. ولو لم تمسسها بروق الحرب.. إنه نص مفعم بمضمرات تريد أن تصل إلى غايات عليا.. من شأنها إحداث فجوة في أفق مظلم.. للنجاة بإرث يكاد يعلن عن طهارة وطنية قادمة من أقاصي التاريخ. هذا من ناحية.. ومن ناحية أخرى فإن لحضور الومضة بهذا النسق الصوفي في ساحة التغيير دلالات.. منها كما ذكرنا من إمكانية أن يكون الصوفي ثائرا وصوفيا في ذات الوقت.. ومنها وهو ما نريد ذكره الآن من أن حضور الومضة أيضا بهذا القالب النثري حري بها أن تكون ضمن سلوك حياتي فضلا عن فعل تغييري وليس مجرد كلام شعراء هم يقولون ما لا يفعلون.. لقد أوجدت قصيدة النثر حضورها في الميدان بنفس حضور القصيدة الشعرية.. كشعار أدبي منصوب على خيمة في ساحة التغيير السلمي وكشعار لمسيرة مطالبة بتغيير النظام وإسقاط رموزه.