(1)
في حضرة الله يجب عليك ان تخلع نعليك... قال تعالى مكلما موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك.. تخلعهما ليس لأنك تطأ بهما الوادي المقدس.. لأن الكلام محمول على المجاز لأنه يريد خلع الدنيا والهوى... وأن تجعل همك الوحيد وجهتك إلى الله.. وهذا ما يفعله الشاعر رياض الصايدي في كل مرة عند دخوله وادي الشعر عائدا من انتصاراته على العدوان لمناجاة ربه.. وشكره والابتهال له.. فبدون تخلي الشاعر عن ما سوى الله سيفقد صفته كمحب خالص.. وستتخذ القصيدة مناح شتى.
(هو الله ذي سدد هو الله ذي رمى
هو الله جل الله ما أقواه وأعظمه
هو الله ذي دافع هو الله ذي حمى
هو الله يكفينا له الحمد ما أعظمه)
وبما يمكن أن نسميه بشعر التسبيح... أو تسبيح الشعر.. ينسب رياض الصايدي كل نصر يتم على أيدي رجال الله إلى الله الناصر المعين.. فكل إنجاز هو بفضله فله الحمد.. هنا ولا أريد إثبات عمق إيمان الشاعر ولا تشخيصه أيديولوجيته. أسعى لقراءة النص من منظور جمالي وروحاني... فهو نص جميل ومنافس يمكنه أن يحتل مرتبة عالية في الشعر لمرحلة من أهم مراحل التاريخ التي قطعها المجتمع اليمني... والحقيقة أنه كذلك لأنه صار أنشودة خالدة في الوعي الشعبي.. ومطبوعة في ذاكرته ومرتبطة بحدث كبير في ظرف أشبه بعبور صراط على النار... هذا الحدث المهم كان هذا النص إحدى ألسنته. وقد صاغه على البحر الطويل وخاض بنا غمار قصيدته الميمية المحكمة... مما يعني أن لديه نفس مزامن لما يخوضه الجيش من معارك النفس الطويل.. وبمباشرة معهودة هي من أهم سمات شعر الحال.
وبتكراره هو الله وتكراره الحمد له وما اعظمه في كل بيت من القصيدة.. التي غرضها للوهلة الأولى الفخر والحماسة والبطولة لكنه يعزو كل ذلك إلى الله.. فهي مديح إلهي بدرجة كبيرة. قصيدة مباشرة بمفرداتها وعاميتها وبساطتها.. وتلقائيتها.. لكنها مكتظة بالمفاهيم الإيمانية والبطولية ومعتزة بذاتها المرعب للعدوان.
(2)
(وامتطيت المنايا واقتحمت الدواهي
واكتسحت العواصف منطلق في سبيلك)..
صور بديعة مجترحة من صميم التماهي مع العشق الإلهي تتوالى وتنساب في هذا البيت _من نص بعنوان "لك حياتي وموتي"_ كتوالي وانسياب الماء البارد من الغيل... فامتطاء المنايا واقتحام الدواهي واكتساح العواصف التقاطات شعرية بديعة من أحداث مرعبة خاضها الشاعر في الواقع في أعتى معاركه مع العدوان.. ثلاثة مشاهد من خوض الرعب وتذوق الخطر تسلب اللب من الصدر كل منها كان يحتاج إعلام حربي لنقلها للعيان.. لكنه وفر علينا التكلفة وجاء بالمعركة في بيته الشعري هذا... ليس لغرض تصوير مشاهد الحرب في الميدان ولكن لبيان أن كل تلك المخاطر التي واجهها هي مهر رضاء الله.
(بعت لك يا من بذكراك ذابت شفاهي
لك حياتي وموتي طاعتي كل شي لك)..
هذا المشهد يذيب القلب بل يسكر اللب.. ويصور ذوبان شفاه الشاعر بذكر الله... تعبير عن ذوبان حروفه وامتدادا لذوبان قلبه.. ويعكس بعد ذلك قمة سخائه بنفسه من أجل رضاء الله.. في صورة بيانية بديعة لمدى توله هذا الذائب في العشق الإلهي.. ذوبان السكر في الماء والجليد تحت الشمس..
(3)
من قصيدة بعنوان "حارس الخندق"..
(حـارس الخنـــدق واسد خيبر وفارس حنين
حيــــدر المـــقرون بـــالنور وأول مــــن تلاه
بالــــولا له نــــرضع الطـــفل ونغـذّي الجنين
والفتــــى ينبـــض بحـــبه ويتــــــحزم ولاه)..
ليس بالسهل وصف الحب بالكلمات... لأنه معنى مجرد غاية في التجريد... وليس مجرد إحساس.. ويحتاج إلى قدرة عالية وملكة شاعر متمكن من خطفه من بين أنياب البرق ومخالب الرعد... فحارس الخندق المقرون بالنور وأول من تلاه.. لا يوازي الشغف من حبه إلا الولاء له.. ليس كأي ولاء.. هذا لا بد أن ينشأ إنشاء في جينات الرضع.. لكي يثمر نبضا بين ضلوع الفتيان ويحيون به وعليه ومعه وله كأنه جزء لا يتجزأ من كياناتهم وسلوكياتهم في سلمهم وحربهم.
حارس الخـندق الشاعر رياض الصايدي الذي ترجل عن صهوة جواده قبل أيام.. حزم متاعه تاركا الدنيا وهاجر إلى ربه معلنا بداية جديدة من الجوار الأعلى... والحياة السعيدة الأبدية مع الأنبياء والصديقين والصالحين.. بعد حياة حافلة بجهاد الكلمة الصادقة وبالقصيدة القوية... التي جعل منها خندقا حول مدينة الصمود المناهضة للعدوان والمنافحة عن الوطن والدين والقيم.
(4)
العقل لا عمل له في ظل عدم وجود البدائل.. إذ لا عقل بلا وجود خيارات..*
وهنا حيث ينصب الشاعر شراع النضال.. لا نجد ما نتوقعه كقراء متشحين بالعقل الشعري المترف بالخيال والمتسع الاتجاهات والكثير الخيارات.. لأنه في مقام المحارب في الحق.. فالخيارات تقل.. وفي كل خطوة ينتقل إليها الشاعر.. سنجده سالك أحد خيارين.. وهذا كله مبني على مبدأ الالتزام..
(يا ناقلين العلم عبر المدارين
قولوا لأصحاب السمو والسعادة
غارة بغارة والمطار بمطارين
والضربة بثنتين والا زيادة)..
من قصيدة معنونة ب "لطمة بثنتين".. تستحق الإشادة لأنها تقرأ نفسية المقاتل اليمني بوضوح.. وفيها اختصار لتوجهه الفكري والعقدي والأخلاقي.. ولماذا هو صنديد عنيد عنيف شجاع لا يقبل الهزيمة ولا التراجع ولا التخلي عن مبادئه... بما لا يخالف القرآن والضمير الأخلاقي.. ولا يرضى بأقل من هزم العدو أو الموت.. وأن كل مجريات معاركه مبنية على سلوك إحدى خيارين... هو يعرفهما.. إما وإما.. لأن الحق بين والباطل بين.. ولا وجود للضبابية في قاموسه... العقل الجهادي لا يقبل تعدد المسالك ولا ضبابيتها... لأن القضية التي يقدم نفسه من أجلها تستوجب أن لا ينتقي إلا ما يدعمها..
(وانا القوي بالله وحلف البعارين
باقي معه حلين فيها الإفادة
حلّين محتاجة إلى احد قرارين
إما امتداد الحرب والا انخماده)..
لا خيار ثالث لدينا ونحن في مقام الهداية.. ذات السقف العالي.. لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته... وإن هي إلا سيرة علي أو النار..
(يعني في الحالين هم بين عارين
عار انخماد الحرب والا امتداده).
لم يأت وضعهم بين عارين بمزاج الشاعر... لانهم فعلا وضعوا أنفسهم في ذلك العار.. فهم منذ البداية قد اختاروا القرار الخاطئ.. من حيث أنهم معتدون.. ومن حيث سلوكهم اللا أخلاقي في الحرب بدون قيم ولا معايير إنسانية.
لطمة بثنتين
يا ناقلين العلم عبر المدارين
قولوا لأصحاب السمو والسعادة
غارة بغارة والمطار بمطارين
والضربة بثنتين والا زيادة
وانا القوي بالله وحلف البعارين
باقي معه حلين فيها الإفادة
حلّين محتاجة إلى احد قرارين
إما امتداد الحرب والا انخماده
فإن قرر التصعيد قبله دمارين
تدمير عرشه أو دمار اقتصاده
وان قرر ان يقبل بأحلى الأمرين
يعني فشـل ما اقدر يحقق مراده
يعني في الحالين هم بين عارين
عار انخماد الحرب والا امتداده
واحنا في الحالين بين انتصارين
نصر القضية وانـتـصار الإرادة
ووين ما اختاروا من الاختيارين
ما با يذوقوا اليوم طعم السعادة
لا بد ما نقتص منهم لثارين
ثار الدم الزاكي وثار السيادة
بالحرب ارادوا حشرنا بين نارين
إما الحياة بذل والا ابادة
واحنا نواجههم على احد خيارين
إما الحياة بعز والا الشهادة.