|
العلم.. بين محدودية البصر وسعة البصيرة!
بقلم/ عبدالعزيز البغدادي
نشر منذ: سنتين و 9 أشهر و 14 يوماً الثلاثاء 08 فبراير-شباط 2022 07:42 م
من يدعي أن لله حدودا يمكنه امتلاك ناصيتها بقوته المادية أو المعنوية يجهل أو يتجاهل أن الغائب من العلم ليس له حدود : (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) (85) سورة الإسراء ، إنه خطاب يحث على التواضع والسعي إلى التحصيل العلمي والمعرفي والبعد عن الغرور لقلة العلم الحاضر والله وحده (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ) آية (9) من سورة الرعد, ويرى جانب من الصوفية ضرورة التفريق بين دلالتي العلم بالأشياء والمعرفة بالذات الإلهية فالعلم يبنى على الحواس ، ومعرفة الله تبنى على الإيمان بما هو خارج قدرة الإحاطة العلمية المادية المدركة بالحواس بعد بذل الجهد وأسماء الله الحسنى تجمع بين العلم والمعرفة والصفة والموصوف ويجمعهما الظاهر والباطن (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) الآية (3) سورة الحديد واجتهادات الفقهاء يجب أن تخضع للدراسة والنقد والتمحيص لأنه عمل بشري لا يتوقف عند رأي فقيه أو صاحب رأي أو مذهب يقول أبو العلاء المعري بشأن صفات الله بين الظاهر والباطن :
(الله لا ريب فيه وهو محتجبٌ بادٍ * وكلٌّ إلى طبعٍ له جذبَ
سألتموني فأعيتني إجابتكم * من ادعى أنه يدري فقد كذب)
وأنّى لمخلوقٍ ادعاء امتلاك حقيقة الله ناهيك عن محاولة الاستحواذ عليها وهو نور السماوات والأرض وكرسيه وسعهما وكلماته لا يكفي البحر مدادا لكتابتها؛
مسكينٌ هذا المدعي البائس الذي يحاول التضييق على نفسه وعلى غيره بالعمل على تدجينهم وسلب وعيهم، والاستيلاء على أسماعهم وأبصارهم وعقولهم وضمائرهم وكل مداركهم ليبصق فيها تصوراته وخزعبلاته بل ويحاول منع غيره من التفكير، مسكينٌ هذا الجلاد أو الضحية في صورة الجلاد إنه لامثيل لبؤسه ؟!
في إحدى المجالس ذهل أحد الحضور من حديث آخر عن موقف الصوفية حول معرفة الله بين العقل والقلب وضرورة مراعاة اختلاف القدرات والانتقال من المرئي إلى المخفي ومن السطح إلى العمق والعلاقة السوية بين المنقول والمعقول التي حولها الحكام المستبدون إلى مدخل للإساءة إلى الدين باسمه واستهداف واتهام المعارضين بالكفر عن طريق المكذوب من المنقول ضد المعقول وجعله وسيلة لقتل كل جهد عقلي يحاول التفريق بين محدودية المنقول ولا محدودية المعقول أو بمعنى آخر بين محدودية البصر وسعة البصيرة؛
وتساءل آخر: هل يحكم القاضي في ما يعرض عليه من قضايا بقلبه أم بعقله
قلت: بل بعقله ولكن لا يجب إغفال دور القلب في تغذية العقل وكذا دور العقل في تنشيط القلب فالقلب أداة البصيرة الواسعة لإدراك ما وراء المشهود والعلاقة بينهما محكومة بالقدرة على الإمساك بالتوازن بين إعمال العقل وعدم إغفال وظيفة القلب الجبارة في الوصول إلى لب الأحكام المبنية على المعلوم المشهود المقر قانونا وشرعاً وعرفاً وليس على الغائب الذي هو من أمر الله؛
ومعيار التوازن المسموح موافقته لنصوص القوانين المقرَّة وليس للمزاجية أو للمزايدة والاستحواذ التي يستخدمها بعض القضاة للحكم وفق أهوائهم ، فالعدالة الدنيوية تقوم على العلم بمعنى الشهادة دون الغيب ، وعلى الظاهر دون الباطن لأن علم المخلوق بالمعلوم ممكن التحقق منه أما علمه بالغيب فغير ممكن إلا بالمعرفة الربانية غير القابلة للإثبات المادي ولا تبنى عليها أحكام القضاء ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ* لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ* إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ* فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ* إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ﴾ سورة الغاشية الآية 21-26؛
وعدالة القضاء الدنيوي إذاً عدالة شكلية وفق مقولة ( الشريعة بالظاهر) ولهذا وجب على القاضي المساواة بين الناس في المجلس والنظرة والاستماع والابتسامة وتمكين الخصوم من تقديم ما لديهم من دعاوى ودفوع ودفاع وردود من ابتداء تقديم الدعوى إلى حين حجز القضية للحكم وإصداره بناءً على ما ظهر له من أدلة مقدمة وليس بناءً على ما يعلمه ووفقاً لأحكام القانون وليس وفقاً لمزاجه أو تفسيره الشخصي لأحكام الشريعة وجهل القاضي بالقانون أو عدم الالتزام به من أهم أسباب بطلان حكمه لأن استقلاله وحريته مشروطان بالتزامه بالقانون وقد نص الدستور على أن القضاء مستقل ولا سلطان عليه سوى سلطان القانون ، وهذا يصدق في القضاء كما يصدق في السياسة فالصلاحيات المطلقة مفسدة مطلقة ومغذية للاستبداد بكل صوره وهو كارثة الكوارث في حياة الأمة ومصدر جمودها وتخلفها !؛
ومحاصرة العقول ينمي النفاق والمنافقين؛
ومن مظاهر تخلف هذه الأمة أنها وفي هذا العصر ما تزال تجادل حول حقها في إعمال العقل من عدمه ؟!؛
القلبُ والعقلُ صنوان
والله ملء الكون فانتبهوا وعوا |
|
|