في مطلع العام 2011 اندلعت الاحتجاجات الشَّعْبية نتيجة استحكام الأزمات في جنوب الوطن وشماله والتي وصلت إلى حروب مفتوحة في الشمال وقمع للحراك السلمي في الجنوب وانهيار أمني وتوسع نشاط الجماعات التكفيرية، وعجز النخبة الحاكمة عن حل القضايا الاجتماعية ومنها التنموية والبطالة خاصة في صفوف الجامعيين، وعجز المعارضة عن فتح أفق للانتقال السياسي والتداول السلمي للسلطة، وبعد أن وصلت العملية السياسية الانتخابية إلى طريق مسدود.
كانت الثورة ضرورية ومن داخل التاريخ الاجتماعي السياسي اليَمَني، وإن كانت الثورة في تونس 18 كانون الأول/ ديسمبر 2010 والثورة المصرية 25 كانون الثاني/ يناير قد مثلتا إلهاماً (عدوى اجتماعية)، إلا أن دوافع الخروج ضد النخبة الحاكمة لليمن في 2011 تمثلت بالأزمة الاجتماعية الاقتصادية السياسية اليَمَنية، وقد تنبه نظام علي صالح مسبقاً لهذه التغيرات في مصر وتونس، فاتجه قبل 11 شباط/ فبراير إلى تقديم مبادرة لأحزاب اللقاء المُشترك لإعادة تحريك العملية السياسية المجمدة، وقد وافقت أحزاب اللقاء المشترك على المبادرة واضعة شروطها، بل هددت الحزب الحاكم بأن الأوضاع في اليمن قد تتطور إلى ثورة يقودها الشارع، وهي بقولها هذا كانت تتحدث عن الثورة من خارجها، مبدية عدم الانتماء إليها، ثم قدم اللقاء المشترك خمس نقاط عبر نخبة من العلماء والمشايخ في 2 آذار/ مارس 2011 طلب فيها وضع برنامج زمني لتنحي صالح عن السُلطة خلال العام 2011، وهو ما اعتبره صالح تجاوزاً للدستور الذي يعطيه الحق في البقاء في السُلطة حتى العام 2013، وعند هذه النقطة توقفت المفاوضات بين اللقاء المشترك والمؤتمر الشَّعْبي العام، وكان المشترك في هذه الأثناء يخوض الحوار مع الأمريكيين والأوروبيين في العاصمة صنعاء.
مطالب الشَّعب في ثورة فبراير
عبرت ثورة 11 شباط/ فبراير 2011 عن وحدة مطلب الشَّعْب اليَمَني (صاحب الموقف المعارض لا الموالي)، حيث تجاوزت الثورة الشبابية الشَّعْبية اليَمَنية كل الأطر الضيقة الجهوية والمذهبية، وكذلك الاصطفافات الحزبية السياسية القديمة، مُعبرةً عن اللوحة الجديدة المُتشكلة في الوطن، القائمة على الأُخوة اليَمَنية، ومؤكدة على جوهر اجتماعية التدافع والصراع ونافيةً العناوين والفرضيات الطائفية والعرقية والجهوية (التي ترفع في واقع اليوم في ظل العُدْوَان، وتفسر بها المعارك الداخلية المرتبطة بالعُدْوَان الأجنبي).
كانت الوحدة الشَّعْبية اليَمَنية من أهم المسائل التي أكدتها ثورة شباط/ فبراير؛ فعلى الرغم من استخدام السلطة السابقة العميلة في سيطرتها واستبدادها -الاقتصادي والخدماتي والسياسي- على آليات عصبية وتنمية تلك العصبيات لتفكيك المجتمع وإعاقة توحد المحرومين من مختلف المناطق والمذاهب والقبائل والأسر، إلا أن ثورة شباط/ فبراير جمعت فئات واسعة من الشَّعْب وأثبتت الجوهر الاجتماعي للظلم والاستبداد، وقد دلل ذلك التمازج على أن الأزمات اليَمَنية يجب أن تُحل ضمن الإطار الاجتماعي الديمقراطي الوطني وليس على أسس طائفية ومناطقية، وهذه الوحدة الشَّعْبية أخافت السلطة الحاكمة بمختلف أجنحتها، كما مثلت تهديداً للقوى الدولية الغربية المهيمنة ووكلائها الخليجيين.
عبرت الجماهير المنخرطة في ثورة 11 شباط/ فبراير، عبر نشاطها الميداني والذهني، عن وعي الطبقات الشَّعْبية اليَمَنية بالقضايا السياسية، حيث قدمت نفسها عفوية عبر هتافاتها بأنها القوى الاجتماعية صاحب المصلحة في التغيير الاجتماعي الوطني، فتلك الجماهير كانت هي الطبقات والفئات والشرائح الاجتماعية والتيارات السياسية المحرومة، والقادرة على إنتاج الجديد في الحياة الاقتصادية والفكرية ضد ظلامية القديم وفساده، وبالتالي فقد مثلت خطراً على النخبة الحاكمة، ومن خلفهما السعودية وأمريكا، فسعت هذه الأطراف الأجنبية الاستعمارية والمحلية الظالمة نحو تفكيك الوحدة الشَّعْبية والاستفادة من الاندفاعات الثورية وحرفها عن المجرى الثوري في مواجهة القديم كمنظومة متكاملة، إلى مجرى الصراع التنافسي بين أقطاب السلطة الحاكمة.
تركز خطاب جماهير ثورة 11 شباط/ فبراير على إسقاط قوى الاستبداد والفساد الحاكمة في اليمن، فيما ظهرت أصوات لرفض هيمنة القوى الإقليمية الداعمة للسلطة الاستبدادية وفي مقدمتها المملكة السعودية والولايات المتحدة الأمريكية هي أصوات شباب أنصار الله والاشتراكي والناصري، وأحياناً كان يتبنى «الإصلاح» مثل هذه الشعارات بانتهازية، وعموماً لم تكن قضية السيادة الوطنية مطروحة في صدارة أولويات ثورة 11 شباط/ فبراير 2011، التي ركزت على الدولة المدنية بمفهومها الليبرالي.
صراع القوى الثورية والقوى الانتهازية في صفوف ثورة شباط/ فبراير
عندما تصاعدت الاحتجاجات الشَّعْبية الثورية في 2011 وجدت فيها أحزاب المعارضة السياسية (اللقاء المشترك) فرصة من أجل الضغط على النظام، للقبول بالتداول السلمي للسلطة وتحريك عجلة الديمقراطية التي توقفت في العام 2009، وهو سقف سياسي منخفض مقارنة بحدث الثورة الذي تجاوز هذا السقف السياسي، ويُعد المطلب موقفاً رجعياً أمام تقدمية الثورة، وإن كان السقف السياسي للمعارضة منخفضاً وأدنى من أفق الثورة، إلا أن موقف «الإصلاح» كان أكثر رجعية.
وجد التجمع اليَمَني للإصلاح -أحد أحزاب المعارضة السياسية- في الثورة فرصة لزيادة حصته في السلطة والثروة، فهو بقياداته أحد أركان النظام، وبرغم اصطفافه ضد الحزب الحاكم (المؤتمر) في موقع المعارضة وضمن تكتل اللقاء المشترك، وقد كانت معارضة الإصلاح معارضة المثيل المنافس للحزب الحاكم لا معارضة الخصم والنقيض، وهكذا وجد الإصلاح في الثورة فرصة لتغيير الكفة في السلطة، ففيما كانت الجماهير في الساحات تمارس العمل الثوري في أفق واسع كانت أحزاب المعارضة تخوض العمل السياسي في ظل السقف السياسي القديم نفسه الذي كانت تتحرك في إطاره منذ تشكيل اللقاء المشترك الذي تراجع دوره في المعارضة الجادة بعد اغتيال الشهيد جارالله عمر، وكان الإصلاح الذي يتحرك مع المشترك في إطار السقف القديم، له طموح أن يطيح بالمؤتمر والمشترك والثوار معاً، وقد استمر النشاط السياسي المشترك ما بين الحزب الحاكم وأحزاب المعارضة حتى أواخر شهر آذار/ مارس 2011.
في بداية ثورة شباط/ فبراير، كان التجمع اليَمَني للإصلاح يُراقب التغيرات في المزاج الاجتماعي من الثورة فيما هو مستمر مع المشترك عموماً في التفاوض مع الحزب الحاكم عبر المبادرات والنقاط والشروط والبيانات والردود والوسطاء. وحين وجد الإصلاح أن الثورة تنمو كل يوم، دخل بثقله الكبير في الثورة باقتداره المالي وقوته التنظيمية والإعلامية وبعده الإقليمي فسيطر على ساحة الثورة ليجد الثوار أنفسهم غرباء في الساحة، فما بين عشية وضحاها وجدوا وجوهاً جديدة مسيطرة على كل شيء.
دخلت أحزاب المعارضة السياسية (اللقاء المشترك) في الاحتجاجات وسعت إلى تشكيل مجلس يمثل قوى الثورة يشمل الجماهير وأحزاب المعارضة، والذي تمخض عنه إعلان قيام «المجلس الوطني لقوى الثورة السلمية». لقد كان ما يُسمى «المجلس الوطني لقوى الثورة» مُعبراً عن التيار الرجعي في صفوف الثورة، الذي شهد خلافاً بين أطرافه وأوجد الإصلاح آليات لدفع عناصره إلى التكتل باسم المرأة والشباب وغيرها.
احتدم الصراع داخل معسكر الثورة بين القوى الانتهازية المتمثلة بشكل أساسي في التجمع اليَمَني للإصلاح كطرف ضد القوى الثورية المؤلفة من أنصار الله والشباب الاشتراكيين والناصريين والمستقلين. هذا الصراع هو ما حدد لاحقاً النتيجة النهائية «للثورة»، وقد تفوق الإصلاح في المرحلة الأولى من الثورة واستطاع السيطرة عليها ومقايضتها في الحقل السياسي فيما سمي «المبادرة الخليجية»، إلا أن القوى الثورية ظلت في بعض الساحات وواصلت النشاط الثوري حتى النصر في 21 أيلول/ سبتمبر 2014 بقيادة أنصار الله.
عمل الإصلاح من أجل السيطرة على الثورة وحركة المسيرات ومنصاتها ولجانها التنظيمية والأمنية والإعلامية حتى عرفت قناة «سهيل» الإخوانية بـ»قناة الثورة» تسندها قناة «الجزيرة» القطرية. دخلت عناصر الإصلاح في صدامات عنيفة مع الثوار الصادقين، وكل من كان يخالف رأيهم يسمى «مندساً وأمناً قومياً» ويتم سجنه في الفرقة الأولى مدرع التابعة لعلي محسن الأحمر. وفي هذا الصف الثوري لم يكن هناك سوى أنصار الله كقوة منظمة دافعت عن الشباب الثائر وخلقت نوعاً من التوازن في الساحة الثورية بصنعاء، وإن كان أنصار الله قد دخلوا الثورة ليس كمكون بل كسائر الشَّعْب، وهو ما كان يركز عليه قائد أنصار الله آنذاك، وقد كانت ثورة 11 شباط/ فبراير المشاركة المدنية الأولى لهم في الفضاء الوطني العام بعد 6 حروب ظالمة شنتها عليهم النخبة الحاكمة.
الصراع الذي كان يدور بين القوى الثورية والقوى الانتهازية في ساحة صنعاء، كان يجري أيضاً في تعز وغيرها، وقد مثلت تعز المركز السياسي الثاني بعد صنعاء، فقد كان موقف القوى الانتهازية ممثلة في حزب الإصلاح موقفاً مركزياً معمماً على مختلف الساحات (بنزوله ساحات الثورة استطاع الإصلاح، باقتداره المالي وتنظيمه الأمني وجهازه الإعلامي، الالتفاف على الثورة)، ففي ساحة الحُريّة في تعز تعاملوا مع القوى الثورية بالقمع والتخوين، فمن كان له موقف مخالف لهم كان يُسمى مندساً ويتهم بأنه من عناصر الأمن القومي، وإن كان نموذج تعز أقدر على الحركة فقد كانت قدرة الثوار على الخروج في مسيرات خارج إرادة الإصلاح أكبر. وكما كان عليه الحال في صنعاء فقد كان ثمة تحالف بين القوى الثورية ممثلة بشباب الاشتراكي وأنصار الله وبعض الناصريين والمستقلين في مواجهة التجمع اليَمَني للإصلاح. واعتمد التحالف الثوري التكامل، ففيما كان ثقل أنصار الله الأكبر في صنعاء سنداً لبقية القوى الثورية كان ثقل الاشتراكي الأكبر في تعز سنداً لبقية القوى الثورية هناك. وقد استمر هذا التحالف الموضوعي الثوري في صنعاء وتعز وغيرهما من المحافظات حتى ثورة 21 أيلول/ سبتمبر 2014. وقد كان مميزاً في تجربة تعز بروز الصوت الوطني المناهض للولايات المتحدة الأمريكية والمملكة السعودية، الأمر الذي جعل الولايات المتحدة والسعودية تنتقمان من محافظة تعز في العُدْوَان الذي بدأ في 26 آذار/ مارس 2015.
مجزرة «جمعة الكرامة» والثورة المضادة
في 18 آذار/ مارس 2011 وقعت مجزرة في صفوف الثوار بواسطة قناصين اعتلوا أسطح المنازل في الطرف الجنوبي من ساحة التغيير في صنعاء، قتل وأصيب فيها أكثر من 200 ثائر. مثلت هذه المجزرة نقلة بما ترتب عليها من نتائج مؤثرة. الأحداث اللاحقة أشارت إلى أن علي محسن الأحمر قام بتدبير هذه المجزرة، حيث اختفى المسلحون الذين ألقى المحتجون القبض عليهم وسلموهم للفرقة الأولى مدرع التابعة للأحمر، رغم أنه لم يكن قد أعلن «انضمامه إلى الثورة»، وكذلك اغتيال المحامي حسن الدولة -نائب رئيس اتحاد المحامين العرب- الذي كان يحقق في الحادثة وقد أمسك ببعض خيوط القضية.
مهدت مجزرة «جمعة الكرامة» لدخول اللواء علي محسن إلى صفوف الثورة، وهو الرجل الثاني في نظام صالح، والذي كان الرجل الأول في بعض المواقف كما أكد. كانت العلاقة ما بين علي محسن والإخوان وثيقة وكان مخططاً له أن يسيطر على الثورة أو يعلن الانقلاب العسكري على النظام فقد كان الإخوان يُدافعون عنه من قبل أن يعلن «انضمامه إلى الثورة» وهو معروف بأنه أحد مراكز النفوذ ومن النخبة الحاكمة. وهناك حادثة ربما تبدو بسيطة إلا أنها تشير إلى تأثير علي محسن في الثورة عن طريق الإخوان من قبل إعلان «الانضمام»، ففي إحدى الحوادث عندما كان أنصار الله يُعرفون عن مظلومية صعدة والحرب عليها، رفعوا صورة علي محسن في إحدى الخيام باعتباره أحد المجرمين المتورطين في جرائم الحرب في صعدة، وفي اليوم الثاني تم إحراق هذه الخيمة التي ذكر فيها علي محسن باعتباره مجرماً، ما يعني نفوذ الإخوان من جهة ودفاعهم عن علي محسن من جهة أخرى.
جرى تنفيذ المجزرة وفق مبدأ الصدمة والرعب، ووفقا لهذا المبدأ فالأحداث والمتغيرات الكارثية والمأساوية تسبب صدمة نفسية ومعاناة داخلية، تجعل الجماهير والمكونات السياسية مهيأة لقبول القرارات والتدخلات التي تأتي تحت دعوى رفع الضرر وحماية مصالح المجتمع، فتحت ضغط الصدمة غالباً لا تجد الجماهير والمكونات فرصة للبحث والتفكير من أجل التعامل مع الحدث، فيما القوى التي قامت بهذه الصدمة أو كانت معدة نفسها للاستفادة من الحدث الصادم تكون حاضرة في الوقت «العصيب»، وتقدم حلولها المقترحة التي لم تكن مقبولة سابقاً، وهكذا قدم علي محسن الأحمر نفسه حامياً للثورة، وأياً كان الذي ارتكبها على نحو دقيق فقد أفضت نتائج المجزرة إلى سيطرة علي محسن على الثورة، و»انضمام» الشيخ صادق الأحمر الذي يمثل إحدى النخب الحاكمة- إلى الثورة، وتم محاصرة الثورة في الساحات والإبقاء عليها كورقة ضغط سياسية على علي صالح والمؤتمر الشَّعْبي العام إلى حين التخلص منها، وهو ما تحقق بعد توقيع ما سميت «المبادرة الخليجية».
في 21 آذار/ مارس 2011، انضم اللواء علي محسن الأحمر إلى الاحتجاجات الشَّعْبية بذريعة حماية الثورة، وكان انضمامه تعبيراً عن الرغبة السعودية الأمريكية في شق قوى الثورة وتفريق الجماهير والاستفادة منها في الصراعات البينية لأقطاب السلطة. مثل انضمام علي محسن إرباكاً لقوى الثورة، وفعلياً فإن علي مُحسن لم يشق نظام علي عبدالله صالح بل شق قوى الثورة، فهو أحد المراكز النافذة في النخبة الحاكمة، فكان الضرر الأول هو اجتذاب علي محسن والإخوان لقطاع جماهيري واسع باتجاه مصالحهم لا مصالح الثورة. والضرر الثاني تمثل في استعادة صالح جزءاً من شعبيته، وفي عجز الثورة بعد انضمام محسن عن اجتذاب قطاعات جماهيرية جديدة للمشاركة في ثورة التغيير إلى جانب أحد أقطاب النظام ورموز فساده واستبداده. والضرر الثالث تمثل في تخلي الجنوبين عن مساندة الثورة عموماً، والعودة إلى رفع الشعارات الانفصالية التي توارت في بداية الثورة.
الإخوان وعسكرة الثورة
لم يكن انضمام علي محسن الأحمر فقط انقلاباً على الثورة في المستوى السياسي، بل كان انقلاباً على طبيعتها السلمية وإدخالها في طور الحرب. ليس المقصود بالحرب تحويل الثورة من العمل السلمي إلى الكفاح المُسلح، فليس العيب في نهج الكفاح المُسلح إذا تطلبه الواقع، بل كان المقصود من عسكرة الثورة تجييرها عسكرياً لصالح الإخوان وبيت الأحمر وعلي محسن في مواجهة المؤتمر وعلي عبدالله صالح.
كان التوجه نحو عسكرة الثورة منزلقاً خطيراً، حيث إن الصراع سيندلع بين النخب الحاكمة على حساب الجماهير. هذه النخب المتصارعة تملك الإمكانيات العسكرية والقدرة على الحروب مع نزعات إجرامية، ولا يُهمها أن تدخل البلد في حرب أهلية. وقد حاول الإخوان استقطاب أنصار الله «الحوثيين» للقتال معهم، إلا أن أنهم رفضوا ذلك وتمسكوا بسلمية الثورة، لإدراكهم حقيقة عدم عدالة وثورية الحرب التي يدعو إليها الإخوان.
عقب مجزرة جمعة الكرامة، «انضم» علي محسن بقواته العسكرية «إلى الثورة»، كما «انضم» الشيخ صادق الأحمر بقبائله المسلحة «إلى الثورة»، وأقال علي صالح حكومته بعد «انضمام» معظم وزرائها «إلى الثورة»، وبدأت حرب الحصبة التي فجرها آل الأحمر في 23 أيار/ مايو 2011. تزامنت حرب الحصبة مع صدام قوات الحرس الجمهوري مع مليشيات الإصلاح في مديرية أرحب، ومع إحراق «ساحة الحُريّة» في تعز، ومع صدامات بين الجيش والجماعات التكفيرية في أبين. كان هذا التصعيد جزءاً من مخطط علي محسن الأحمر في القضاء على الثورة والانقلاب والضغط على علي عبدالله صالح من أجل الخضوع للتسوية السياسية، والانقلاب عليه إذا أمكن، ففي حوار مع صحفية «الجمهورية»، في 29 أيلول/ سبتمبر 2012 اعترف علي محسن الأحمر بأن مجزرة جمعة الكرامة جاءت بعد يوم من الاتفاق بين المؤتمر والمعارضة على تشكيل حكومة وحدة وطنية ترأسها المعارضة، وبأنه علم أن صالح يخطط لسحق ساحات الثورة في كل الجمهورية وكذلك سحق الفرقة الأولى مدرع، ولهذا «انضم للثورة» ومعه كثير من أعضاء حكومة المؤتمر والسفراء وكذلك من سماهم «أحرار المؤتمر»، مما اضطر علي صالح إلى أن يقيل حكومته ويعلن حالة الطوارئ، وأقر محسن أيضاً بأنه وعبد ربه منصور هادي كان لهما موقف مساند لثورة 11 شباط/ فبراير منذ انطلاقتها. وبناءً على هذه الشهادة (في حال صدقت) فإن سيناريو لإفشال الحلول السياسية المتمثلة في تشكيل حكومة وحدة وطنية سيعرقل مخطط عسكرة الثورة فكان لا بد من إراقة الدماء.
في 3 حزيران/ يونيو 2011 وقعت محاولة اغتيال الرئيس علي عبدالله صالح، والتي جاءت في هذا السياق العسكري السياسي، فعلي عبدالله صالح، الذي كان حتى ذلك الوقت قادراً على تحريك الجماهير الموالية له حزبياً وبالدعم المالي، كما هو حال حميد الأحمر الذي كان أيضاً يحشد الجماهير بالدعم المالي، حاول أن يتملص من الوصاية الأمريكية؛ فحين وجد ميولاً أمريكية إلى التخلص منه قام بالاستناد إلى قوة الجماهير الموالية له في موازاة جماهير المعارضة والثورة. لجوء صالح إلى الاحتشاد في السبعين، والتهرب من التسوية الأمريكية ورفض التوقيع على «المبادرة الخليجية» للمرة الثالثة، انتهى بحادث تفجير «جامع النهدين»، والذي كاد يودي بحياته، فالتفجير كان له هدف سياسي آنذاك وهو الضغط على صالح للمضي بالتسوية الأمريكية (المبادرة الخليجية).
أمريكا تنهي ثورة 11 فبراير وتحكم الفترة الانتقالية
بانفجار ثورة 11 شباط/ فبراير ضاعفت الولايات المتحدة الأمريكية اهتمامها بالوضع السياسي في اليمن، ولم يكن ذلك على حساب اهتمامها الأمني، فقد كانت النخبة الحاكمة في اليمن بشكل عام وعلي صالح وحزب المؤتمر الشَّعْبي العام وحلفاؤهم مرتبطين بشكل أساسي بالولايات المتحدة التي وجدت نفسها ملزمة بالتدخل السياسي المباشر، بما يضمن استمرار تبعية اليمن. وقد كان أنصار الله المكون الوحيد الذي دعا إلى مواصلة العمل الثوري والدخول في مرحلة انتقالية بمضمون وطني بعيداً عن الإملاءات الأمريكية، وهي دعوة مبكرة لرفض التدخلات الأمريكية التي ظهرت بشكل أكبر عقب توقيع ما سمي المبادرة الخليجية.
بناء على الروابط والعلاقات الضرورية بين الهيمنة الأمريكية وأنظمة الاستبداد العميلة كما كان عليه الحال في اليمن، فإن الولايات المتحدة حين تدافع عن رئيس مستبد مثل علي صالح إنما تدافع عن مصالحها، وعندما تقف ضد ثورة كثورة 11 شباط/ فبراير ثم مجدداً ضد ثورة 21 أيلول/ سبتمبر إنما تقف ضد الثورة التي تعارض مطامعها الاستعمارية في الوطن اليَمَني، ولهذا جاء الموقف الأمريكي من الثورة اليَمَنية 11 شباط/ فبراير و21 أيلول/ سبتمبر موقفاً شديداً رافضاً لحدوث أي تغيير لصالح قوى اجتماعية جديدة من خارج الأقلية المسيطرة في اليمن، فالمصلحة الأساسية من الوقوف ضد الثورة في اليمن وضد التغيير وضد الشراكة الوطنية هي مصلحة أمريكية، واستخدمت دول الخليج مطيةً لتحقيق هذه السياسات الأمريكية، سواء في مرحلة الوقوف ضد ثورة 11 شباط/ فبراير بما سمي المبادرة الخليجية أو الوقوف ضد ثورة 21 أيلول/ سبتمبر بالتدخل العسكري المباشر في 26 آذار/ مارس 2015.
في 11 كانون الثاني/ يناير 2011 قبل شهر من اندلاع الثورة الشبابية، قامت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون بزيارة اليمن، وفي العاصمة صنعاء اجتمعت بأحزاب اللقاء المشترك في إطار تدشينها «الربيع العربي» وصعود الإخوان المسلمين إلى السلطة للقيام بالدور ذاته لصالح الولايات المتحدة الذي كان يقوم به حسني مبارك في مصر وزين العابدين في تونس، فهذه الزيارة رغم أنها كانت مُعدة لتكون زيارة حول قضايا «محاربة الإرهاب» إلا أنها جاءت لرسم ملامح الفترة المقبلة، برز ذلك في لقاء وزيرة الخارجية الأمريكية مع أحزاب اللقاء المشترك. وهذا القول لا يعني أن ثورة 11 شباط/ فبراير محض صناعة استخباراتية، فلها دوافعها الموضوعية الضرورية، وعملت الاستخبارات على الاستفادة منها وقوة الشَّعْب وتوجيه المسار السياسي نحو هدف معين.
وقفت الولايات المتحدة الأمريكية ضد ثورة 11 شباط/ فبراير مدافعة عن نظام علي عبدالله صالح، رجل واشنطن الأول في اليمن. كانت الولايات المتحدة الأمريكية تدرك أن نظام علي صالح يضعف، برغم ما تقدم له من دعم مالي وسياسي وأمني. ومن جهة ثانية كانت الولايات المتحدة تحرص على الامتيازات -شبه الاستعمارية- التي يمنحها إياه نظام العميل علي صالح، فبرز تناقض سياسي في الإدارة الأمريكية في التعامل مع الأزمة اليَمَنية، بين الإبقاء على نظام علي صالح وبين استبداله. في بداية الأمر كانت ترى أن الحل هو دفع نظام علي صالح إلى إجراء إصلاحات سياسية واقتصادية، بالضغط عليه لإجراء حوار مع الثوار وأحزاب المعارضة من أجل إجراء انتخابات مبكرة، أي أن الرؤية الأمريكية في هذه المرحلة كانت تهدف إلى إنعاش العملية السياسية وتجديد نظام علي عبدالله صالح. وفي حين كانت أمريكا تدعم نظام صالح، دخلت في حوار مع قوى المعارضة، عبر السفير الأمريكي في صنعاء، وقد تغير الموقف الأمريكي من تجديد نظام علي صالح، إلى إعادة ترميم النظام السياسي اليَمَني عموماً، وإعادة توزيع السلطة والثروة بين أطراف النخبة الحاكمة، طرف علي صالح والمؤتمر، وطرف بيت الأحمر والإخوان، وبناء عبد ربه منصور هادي كمركز ثالث.
ففي نيسان/ أبريل 2011 ووفق مبدأ أوباما «القيادة من الخلف»، طرح وزير خارجية قطر، حمد بن جاسم، من واشنطن، الفكرة الأولية لـ«المبادرة الخليجية» التي عدلت لاحقاً وأقرت مع آليتها التنفيذية المزمنة، ثم وقعت في 23 تشرين الثاني/ نوفمبر في الرياض من قبل علي صالح والمشترك، بعد تمنع صالح أكثر من ثلاث مرات، وكانت التعديلات والمماطلة فيها نتاج المساومات والتنافس بين أطراف السلطة.
وفي 8 تموز/ يوليو 2011 نظمت أحزاب المشترك بقيادة الإصلاح جمعة «رفض الوصاية»، كان الغرض منها الضغط على أمريكا والسعودية، لفرض تنفيذ المبادرة التي واصل صالح التهرب من تنفيذها بذريعة تلقيه العلاج في المملكة السعودية ثم قام بزيارة أمريكا وبريطانيا باعتبارهما طرفين مؤثرين في الأزمة اليمنية، وعاد إلى اليمن في أيلول/ سبتمبر 2011 ثم تحرك إلى الرياض في تشرين الثاني/ نوفمبر ووقع «المبادرة الخليجية».
المبادرة الأمريكية ـ الخليجية
كانت «المبادرة الخليجية» تدخلاً أمريكياً ضمن مفهوم «القيادة من الخلف» الذي ساد في فترة الرئيس الأمريكي باراك أوباما، فقد قدمت واشنطن تسويتها عن طريق مجلس التعاون الخليجي لتكون مقبولة من اليَمَنيين، وكان تأثيرها مدمراً، فإضافة إلى الانقسامات التي أحدثها ركوب علي محسن موجة الثورة، جاءت «المبادرة الخليجية» لتزيد تفتيت ما تبقى من جماهير الثورة، وكانت «المبادرة الخليجية» الأمريكية في رؤيتها السياسية مُعبرة عن الصراع التنافسي بين نخب السلطة القديمة، ولم تكن معبرة عن صراع القوى الشَّعبية ضد السلطة القديمة برمتها.
أعاقت «المبادرة الخليجية» تطوير الفعل الثوري لحراك 11 شباط/ فبراير 2011، حيث حيدت جزءاً كبيراً من الجماهير، ونقلت الصراع من الحقل الميداني الاحتجاجي إلى الحقل السياسي. لكن هذا النقل لم يكن عكساً لواقع الصراع، فلم تنقل التناقضات الاجتماعية إلى الحقل السياسي من حيث جوهرها، ولو حدث ذلك لكانت «المبادرة الخليجية» عادلة، لكن ما فعلته هو أنها تناولت القضية الاجتماعية كأزمة سياسية بين الحزب الحاكم وأحزاب المعارضة، وهذا التسطيح للقضية الاجتماعية حَكم على المبادرة بالفشل، فهذه المبادرة لم تعكس جوهر الأزمة، ولم تضع أسس حلها، بل حاولت التهرب منها وإعادة توزيع السلطة والثروة بين أطراف النخبة الحاكمة وترميم البنية السياسية الفوقية.
قامت «المبادرة الخليجية» على توزيع السلطة بين نخبها المتنافسة، بين صالح والمؤتمر الشَّعبي العام وحلفائه، وبين الإخوان وبيت الأحمر وحلفائهم؛ كما منحت صالح وكبار أركان النظام حصانة من مواجهة القضاء. وكانت «المبادرة الخليجية» هي الضربة الثانية التي تعرضت لها ثورة 11 شباط/ فبراير، وقد عملت على إحداث الشق الأكبر في أوساط قوى الثورة، وكان هذا الشق عميقاً ومؤثراً، حيث انصرفت جماهير شعبية كثيرة عن الفعل الثوري مؤملة بـ»المبادرة الخليجية» وخداع القوى السياسية المعارضة، ولم يتبقَّ في ساحات الثورة بعد «المبادرة الخليجية» إلا تيارات شبابية بسيطة كالحركة الشبابية لأنصار الله « شباب الصمود» في صنعاء و» شباب العز» في تعز، وكذلك الشباب الاشتراكي والناصري وقوى الحراك الجنوبي في المحافظات الجنوبية، وشباب مدنيين مُستقلين عن الانتماءات الحزبية ومعظمهم من طلاب الجامعات والخريجين في مختلف المحافظات.
تنصيب هادي وتدويل «الأزمة اليَمَنية»
في 21 تشرين الأول/ أكتوبر 2011 صدر قرار مجلس الأمن الدولي رقم (2014) لسنة 2011 للإجهاز على الثورة وصياغة الانتقال السياسي ضمن السياسة الاستعمارية الإمبريالية، وهو القرار الأول الذي تم فيه تدويل «الأزمة اليَمَنية»، من خلال تبني المجلس لـ»المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية»، وفرضها أساساً قانونياً لعملية الانتقال السياسي للسلطة في اليمن. وقد مثل هذا القرار انتصاراً بالنسبة للمعارضة الانتهازية التي تلقته بترحاب كبير، فمسألة تدويل القضية اليَمَنية كانت أحد شروط الولايات المتحدة لتغيير موقفها من نظام علي صالح، وكان القرار بمثابة شرعية قانونية لتبرير التدخلات الأمريكية المباشرة العلنية، وهو ما قامت به الولايات المتحدة وصولاً إلى العُدْوَان 26 آذار/ مارس 2015.
بدأت التدخلات الأمريكية المباشرة العلنية بعد استصدار قرار من مجلس الأمن، وكان أول ما قامت به الولايات المتحدة الأمريكية هو تصفية ثورة 11 شباط/ فبراير ورفع الخيام من ساحات الثورة تمهيداً لتنصيب عبد ربه منصور هادي رئيساً لليمن، ففي كانون الأول/ ديسمبر2011 وضمن برنامج الإجهاز على الثورة صدرت توجيهات بإخلاء الساحات من الثوار (بإيعاز أمريكي) فاستجابت أحزاب المشترك وانسحبت من الساحات، ولم يتبق سوى أنصار الله ومجموعة من اليساريين والشباب المستقل.
في 26 كانون الأول/ ديسمبر 2011 قام السفير الأمريكي بإظهار هادي إلى الواجهة تمهيداً لإحلاله محل صالح، حيث التقى فايرستاين بهادي الذي دعا الأحزاب والقوى السياسية إلى ترجمة التسوية السياسية وفقاً لقرار مجلس الأمن السالف. في ذلك اليوم وضمن السياسة الأمريكية ذاتها في تصفية ثورة 11 شباط/ فبراير والدخول في انتقال السلطة ضمن الأقلية المسيطرة، أطلق السفير الأمريكي تصريحات عدوانية ضد «مسيرة الحياة» الرافضة لـ»المبادرة الخليجية» والقادمة من تعز.
في 21 شباط/ فبراير 2012 وبرعاية أمريكية وضمن الإجراءات الشكلية لتنصيب هادي وإضفاء مسحة ديمقراطية زائفة، أقيمت انتخابات رئاسية يمنية شكلية لمرشح واحد! أشبه ما تكون بالتزكية أو الاستفتاء، خارج القواعد الدستورية اليَمَنية التي تؤكد على التعددية السياسية والتنافس. أقيمت هذه الانتخابات على السجل الانتخابي القديم الذي كانت تصر أحزاب المعارضة على إصلاحه. وقاطعت المعارضة الشَّعبية الانتخابات، فالحراك الجنوبي لم يشارك فيها، وتم إحراق عدد من المراكز الانتخابية في المحافظات الجنوبية، وفي محافظة صعدة قوطعت الانتخابات بطريقة حضارية، حيث فتحت مراكز الانتخابات ولكنها لم تشهد إقبالاً إلا بنسبة لا تعد.
عقب تنصيب الولايات المتحدة لهادي رئيساً وفي 12 حزيران/ يونيو 2012 حددت الولايات المتحدة ملامح مستقبل اليمن وعملية الانتقال بين أطراف النخبة المسيطرة وتصفية ما تبقى من مظاهر وعناصر السيادة الوطنية، حيث رعت الولايات المتحدة الأمريكية قرار مجلس الأمن العُدْوَاني رقم (2051) لسنة 2012 الذي دعا إلى: التنفيذ الكامل لـ»المبادرة الخليجية» وآليتها التنفيذية، لغرض إنهاء الثورة الشَّعبية، وهي تدخلات مباشرة وعلنية قبل بها «المؤتمر» و»المشترك» ضمن الترتيبات الأمريكية لإدارة التنافس بين الأقلية المسيطرة، وبناء أجهزة ديمقراطية شكلية تقوم بوظيفة إدامة وتشريع العلاقة ما بين اليمن من جهة وبين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من جهة ثانية، وقد واصل هادي القيام بدور سلفه علي صالح الخياني. وهكذا تم القضاء على ثورة 11 شباط/ فبراير وإجراء تغييرات هامشية في شكل السلطة اليَمَنية داخل إطار الأقلية المسيطرة، فتم إزاحة القوى الاجتماعية المطالبة بالتغيير وإلغاؤها من العملية السياسية، وحين عادت القوى الاجتماعية صاحبة المصلحة من التغيير للدفاع عن مصالحها وعن التغيير الثوري وانطلقت مجدداً في ثورة 21 أيلول/ سبتمبر 2014؛ جاء التدخل الأمريكي مجدداً وعبر الأدوات الخليجية، متمثلاً في العُدْوَان العسكري المباشر المضاد للثورة، كتقليد استعماري عريق.
* نقلا عن : لا ميديا