إن قراءة القصيدة من زاويتي «اللهجة» و»المباشرة» ممكن في هذا المقام مع تعدد عتباتها الواقعية والقرآنية والأخلاق والعذوبة، وباعتبار ما أجمع عليه تيارها، وباعتبار أن لها جمهوراً. إن للهجات في اليمن شعرية عالية تتجاوز حدود الدهشة والإمتاع، محلية الألفاظ جاءت في سياقات مباشرة حية جعلت مذاق القصيدة رائعاً ومنعشا كألذ ما يمكن، مثل: «ما نخلي» و»حلف الامريكان» و»ما عذر ما يندم» و»عاد فينا» و»المرجله» و»لا ما لقي» و»لالي» و»قعض باسنانه» و»لاغزى» و»كم من» و»داب»... وبالتأكيد فإن ما تعكسه اللهجة كيمياء حياة، ولأنها المستعملة وهي الأحرى بأن نطلق عليها لسان القوم في الواقع أكثر حيوية مما تضفيه على المشهد المعاجم، وإن كانت أفصح نطقا إلا أنها أبهم فهما.
من أهم أسباب الانتصار في مواجهة العدوان كما يراها الشاعر أربعة أصول، وهي الدين والبذل والعزم والدم، مذكورة على التوالي في بيتين ضمن صدر النص:
عاد فينا دين راسخ ما تزعزع واهتد
عاد فينا بذل فاق المرجلة باحسانه
عاد فينا عزم من نار الإبا يتوقد
عاد فينا دم ينبض بالوفا شريانه!
إذن، فلدينا أربعة أركان رئيسية في قصيدة الشاعر أحمد مفلح (أبو مقتدى الوايلي)، شكلت قوام نصه وابتدارات هاجسه الشعري الثائرة، ولا شك أنها أكثر من فرص سانحة لإقناع العالم لماذا يقاتل اليمنيون بكل هذه الشجاعة والصمود. إنها بديهيات تعد في حتميتها بموازاة الفطرة، وهي مترابطة والعلاقة بينها تكاملية، فالدين الذي يشرع الدفاع عن الوطن ومواجهة الغزاة هو حتما دين الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والتدين المشفوع بالبذل هو عين الإيمان. إذن لا جهاد بلا بذل للمال والنفس/ الدم، وكل ذلك لا مجال لإتمامه لولا العزم، عزم الإمام وعزم الأمة، فالعزم أهم أشراط إبلاغ الرسالة.
يلي ذلك في ثمانية أبيات ذكر رموز وطنية ودينية وبطولية لشهداء ضربوا أروع الأمثلة في الشجاعة والبطولة والتفاني والإخلاص والوفاء والولاء لله والدين والأخلاق والوطن والمجتمع. وهم في سياق متوال من النص: «توفيق الطنينة»، وهو من أوائل المجاهدين الذين صرخوا بالشعار في وجه الاستكبار في وقت لم يكن أحد ليجرؤ على القيام به حتى وهو في الأسر، وقد ساوموه على الرجوع عن مسيره فأبى، وبالمثل فعل الأبطال المذكورون في النص؛ و»قاصف» وهو أبو قاصف الذي حوصر في موقعه العسكري وقاتل حتى نفدت ذخيرته فقاتل بالحجارة واستطاع دحر جنود العدو المدججين بالسلاح حتى هزمهم وولوا فراراً؛ و»طومر»، وهو المجاهد هاني طومر الذي فك الحصار عن رفاقه في المعركة وأمدهم بالزاد والماء والذخيرة برغم القصف الذي كان ينهال عليه من كل صوب، ولكن ذلك لم يثنه عن نجدة رفاقه، وفضل الموت على أن يفتك العدو بهم؛ و»شاجع»، أبو شاجع رمز جهادي يمني صال وجال دفاعاً وذوداً عن حياض الوطن حتى اختاره الله شهيداً؛ و»الجرادي»، كان أسيراً وفضل الموت على أن يسب القائد، ودفن حيا وهو شامخ عزيز؛ و»العزي» الإعلامي صلاح العزي كان من أهم الهامات الإعلامية المواجهة، وكان لكتاباته وتصريحاته وقع الصواريخ في جموع العدوان، و«الملصي»، الشهيد حسن الملصي قائد محور نجران استشهد في الميدان وهو يلقن العدوان ألوان العذاب؛ و«القوبري» على درب العظماء ارتقى وقد سطر جهاده أعظم معاني الاستبسال والفداء في ميادين الشرف يجمعهم كلهم خصال «الأشتر» مالك النخعي الذي يعد رمز أولئكَ الرموز في كل ما سبق من الشجاعة وسمو القيم وعلو الغايات واتباع النبي والإمام.
وتتجلى المباشرة في التقاط اللحظة الشعرية من واقع الحال وقلق الظرف وتوجيه الخطاب بوسائل مناسبة يجمعها الوضوح والبساطة والنزق القبلي والنسق الأخلاقي المتخلق في رحم التجارب:
«مننا عهد الكرامة بالدما يتعمد»!
«مننا» بالعامية تعني «منا» بالفصحى، أي هذا عهد كرامة منا ومستعدون للتضحية بدمائنا لإمضائه بأن:
«ما نخلي خصم يفرض فوقنا طغيانه»!
عهدنا على ألا نسمح لأي كان أن يطغى علينا أو يحاول فرض أجنداته ووصاياته علينا.
«لو يحشد حلف الامريكان كما حشد»!
هنا تناص مع عبدالمحسن النمري في زامل «ما نبالي ما نبالي ما نبالي واجعلوها حرب كبرى عالمية».
إذن، فلدينا شعرية، بل شعريات في اللهجات اليمنية تترك في الذهن صورة بديعة لطبيعة الأرض التي ينتمي إليها الشاعر بكل جمالها وصفائها وعنفوانها وشموخها، وشعرية في المباشرة التي لو لم تكن مباشرة لما تناغم مبناها مع معناها إذ كيف لاخضرار الوديان وجريانها أن يظهر بمسوح المدينة الغارقة في التعقيد والإسمنت؟!
الشاعر أحمد عبدالله مفلح (أبو مقتدى الوايلي) من محافظة صعدة- وادي أملح، شاعر مبدع، ينحو في قصائده البعد الحكمي برغم صغر سنه، إلا أنه يبهرك بقدرته على نسج العبارة الشعرية الحكمية كثيفة وإمطار المعنى المضيء من ديم الهجس الشجي.
الصفــــوة
مننا عهد الكرامة بالدما يتعمد
ما نخلي خصم يفرض فوقنا طغيانه
لو يحشد حلف الامريكان كما حشد
والله ان ما عذر ما يندم على عدوانه
احتزم يا شبل طه في رجالك واشتد
همة الأبطال في دحر العدو مليانة
يشهد الله من سمانا والخلايق تشهد
ما نفرط في اليمن للمعتدي واعوانه
عاد فينا دين راسخ ما تزعزع واهتد
عاد فينا بذل فاق المرجلة باحسانه
عاد فينا عزم من نار الإبا يتوقد
عاد فينا دم ينبض بالوفا شريانه
عاد فينا مثل «توفيق الطنينة» خلد
درب كامل يفتخر به جيشنا ولجانه
عاد فينا مثل «قاصف» ما خذل واتردد
فاللقا لا ما لقي لالي قعض باسنانه
عاد فينا مثل «طومر» في الشدايد يشتد
كلما زاد العدو طغيان زاد ايمانه
عاد فينا مثل «شاجع» لا غزا حن ارعد
بالمعدل يحرق الابرمز والزنانه
عاد به مثل «الجرادي» من غزاه اتبدد
بالثقة بالله يتحدى العدو واعوانه
عاد فينا مثلما «العزي» كرم ما اتحدد
يقتدى به في زكا نفسه وبذل احسانه
عاد فينا مثلما «الملصي» حمم تتوقد
خاب منها جيش «بن ناقص» وخاب رهانه
عاد فينا جد مثل «القوبري» يتجدد
غايته تحرير شعبه وانتصار اوطانه
كم من «اشتر» نصر دينه غايته والمقصد
باع نفسه في رضى ربه وربه عانه
جل من سبح بحمده كل داب اتعبد
عاننا وانعم علينا بالهدى سبحانه
كل من والى بنية صدق لال محمد
زاده الله معرفة في العلم واصلح شانه
* نقلا عن : لا ميديا