سنتأمل حالة البيت الأول لكونه الصدر ويختزل فكرة النص أو على الأقل يمهد لتصور أولي عنه:
أنتَ الفؤادُ وأنتَ أنتَ الروحُ للقلبِ أنتَ حنينُهُ المفتوحُ!
أنت الفؤاد، أنت الروح، أنت القلب. هكذا يفتتح الشاعر محمد الشميري قصيدته في مديح النبي موجهاً خطابه المباشر إليه بمعنى: أنت كل هذه اللطائف الروحية في داخلي: الفؤاد، الروح، القلب. وتصدير النص بهذه الجوهريات الإنسانية لم يأت اعتباطا، وإنما لأنها خلاصات التميز عن بقية الكائنات.
الفؤاد، بالمفهوم القرآني الصادق الأمين في موضع: «ما كذب الفؤاد ما رأى» والمسؤول في موضع آخر: «إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا». وبمفهوم تصوري الفؤاد مجمع الحواس أو أنه مجمع التصورات، والشاهد أن الفؤاد صمام أمان مرور تحولات المادة من صيغتها المحسوسة خارج الوعي الإنساني إلى صغيتها المجردة في الداخل.
الروح، الصيغة المفهومية لمعنى نفخ الله من روحه في الإنسان، أي أنه مجازاً «الروح» منذ النفخة إلى قبل وفاته، لكنه هو ذاته النفس، في صورته النهائية، عند النفخة الثانية. وتغير صيغة المفهوم بهذه الكيفية، نتيجة لتغيير الجوهر من صورة صفرية/ نفخة الروح، إلى صورة مدونة/ أفعال النفس. هذا التغيير عبارة عن سجلات أعمال الخير والشر عليه.
حنين القلب المفتوح، المراد القلب، لكنه استدعى وظيفته، وهي المدد اللامقطوع من الفيض المحمدي إلى النور، والمعنى: من خلالك تصل القلوب إلى غاياتها، فأنت ينبوعها الرافد وعلمها الهادي وطريقها الواضح.
على أن ما خلف ضلوع الشاعر يكاد يرى من شفافية القصيدة كالماء الصافي، القلب والروح والفؤاد والحنين والحب والجمال والتجرد من المادي، والزكاء النفسي والصفاء الذهني والتصوف. كل هذا البهاء مجتمع بتماه روحاني عجيب، وتناه عرفاني مذهل، في الحضرة المحمدية، وهذا المديح النبوي الذي تجلى به الشاعر العارف.
حروف الجر حاضرة بقوة: «في» و«عن» و«على» و«إلى» وبصورة خاصة «في» شعرية في هذا الأسلوب حد التناهي وانهماك في الخيال يرغمك على المضي لمعرفة أعمق هذا الاستغراق في الأينية من خلال حرف الجر «في» هو ما نعنيه في هذا المقام وبه يستهدف الشاعر طاقات المحبة والتعظيم في أنساق خيالية تليق بالحضرة النبوية لتتخذ بعد ذلك خارج الوعي هيئات جمالية ملموسة، وهذا يكشف مدى طهارة ونقاء كوامنه وأنها مجال مفعم بالصدق لا يزيد المتلقي إلا رضا وشعورا بالجمال.
وقد ظهرت في النص جمل جرية كثيرة أكثرها مجرورة بالحرف «في»: في النهى، في الفؤاد، في الورى، في وريد قصيدتي، في شوق، في الخافقين، في كل الجوارح، في خاطري، في خافقي، في إشراقه، في ذكرك، في ظلم... يليه «من»: من بين، من سكرة، من الفرج، من نبع حبك، منك استقى، من فيض الهوى... يليه «على»: على نار الجوى، وعلى فؤادي دمعي نحرت، على يديك قصيدتي، صلت عليك جوانحي... يليه «إلى»: شوق إليك، وإلى مقامك، إليك نزوح.
ولكل حرف منها دلالة إما بحسب الحرف ذاته وإما بحسب سياقه في الجملة. دلالة ثابتة في ذاته ودلالة موضوعية في صيرورته. على أن الحرف «في» يعبر بواسطتها عن المكنون وفيها اللذة الروحية والنشوة العقلية في مساحات واسعة من النص، و«من» أيقونة المؤثر/ الحيثية وبمثابة الحافز لإفراغ المكنونات، و«على» أيقونة عمودية للغاية، و«إلى» أيقونة أفقية للهدف. والواضح أن الجمل مفعمة بالمسرة والتفاؤل والإيجابية، وسبب قلة هذه وتلك حضور الأولى بقوة كإشكالية ملحة على البوح.
العنوان يحمل معني اللذة العقلية، المرتبطة بما يجري خارج الوعي، لكون المشاعر تجيش في صدور المخلوقات كلها، لكنها ترجمت على لسان الشاعر لكونه أرهف إحساسا وأبدع تصويرا ولقربه من الممدوح بداعي الجذب والتوله والتذكر والتفكر، فاجتمعت الخواطر في خاطره، فابتهجت في قلبه الكائنات.
هذا هو محمد الشميري، لاهوتي روحاني متصوف متشيع ثوري تميزت قصائده بالمديح الإلهي والنبوي وحب الأولياء، وله قصائد ثورية كثيرة وحسينيات وباع طويل في مواجهة العدوان على اليمن، نشر الكثير من القصائد في الصحف والمجلات وله مؤلفات مطبوعة وتحت الطبع.
ابتهاج الكائنات
أنتَ الفؤادُ وأنتَ أنتَ الروحُ
للقلبِ أنتَ حنينُهُ المفتوحُ
ماذا يقولُ الشعرُ فيكَ وأنتَ لي
كالغيثِ يهمي في النُهى ويفوحُ؟!
كمْ ذابَ قلبي في هواكَ متيماً؟!
كم بِتُّ أشكو لوعتي وأنوحُ؟!
كمْ في الفؤادِ بقيتُ أخفيك الهوى
وحنينُ حبي في الورى مفضوحُ؟!
يغلي اشتياقي في وريدِ قصيدتي
وأنا على نارِ الجوى مذبوحُ
من بين أنقاض الدمار وقفت في
شوقٍ إليك وهاجسي مبحوحُ
نبضي وأنفاسي تردد والملأ
أنت المليح وما سواك مليحُ
يا سيديْ لغةُ الغرامِ بها انطوى
سرٌ له في الخافقينِ شروحُ
يا سيدي ناجاكَ قلبي والمدى
من سكرةِ الحبِّ الشغوفِ جَموحُ
طه، أتيتُكَ والهوى يجتاحُني
وعلى فؤادي دمعيَ المسفوحُ
طه، وفي كلِّ الجوارحِ شهقةٌ
ويطيرُ بي نحْوَ الحبيبِ مديحُ
طه، وتلتفتُ الحروفُ بلهفةٍ
وإلى مقامِكَ ترتقي بي الريحُ
طه، ويرتدُّ الصدى في خاطري
ضوءاً من الفرجِ البهيِّ يلوحُ
طه، نحرتُ على يديكَ قصيدتي
وفِدَاكَ قلبي سيّدي والروحُ
طه، ارتوتْ من نبعِ حبكَ أدْمُعيْ
معنى لهُ في خافقي فتوحُ
وَلَهُ الحبيبِ يصوغني أنشودةً
يغدو بها موجُ الوفا ويروحُ
يا نورَ هذا الكونِ في إشراقِهِ
شعري أنا في ذكرِكَ الممدوحُ
منك استقى نبضي حروفَ صبابتي
والشعرُ من فيضِ الهوى ممنوحُ
يا من هو المصباحُ في ظُلَمِ الأسى
ولِخَافقي من كلِّ دا ترويحُ
روحي التي من نبعِ حبِّكَ ترتوي
ترجو يكون لها إليكَ نُزوحُ
وأنا هنا هامتْ بذِكرِكَ مُهْجتِي
بمقامِ قدسِكَ طابَ لي التسبيحُ
صلَّتْ عليكَ جوانحي وجوارحي
يرقى بها معنى الهوى ويفوحُ.
* نقلا عن : لا ميديا