في القرية، الناس منضبطون في مواعيد نومهم واستيقاظهم وتناول وجباتهم، وطريقة موتهم.. كلهم يكتبون وصاياهم، ويحتفظون بأكفانهم في خزانة الملابس.
سألت أبي ذات يوم: لماذا يحتفظ بالكفن؟ فقال لي: كما نحرص على ثيابنا في الدنيا لا بد أن نجهز ثوب الآخرة.
كان بعضهم يخاف أن يموت في يوم عيد أو إجازة، أو في منتصف الليل، لأن المحلات التي تبيع الأقمشة ستكون مقفلة، ولن يستطيعوا شراء الكفن.. لذلك كانوا يشترونه ويضعونه في خزانة الملابس تحسباً لأي طارئ.
كان أجدادنا ينتظرون الموت، كل يوم، كأنهم يتنظرون ضيفاً. يجهزون أكفانهم ويغسلونها بماء زمزم، ويضعون بجوارها عطر «جنة النعيم»، ويوصون بوضع الرياحين والشذاب عليهم بعد تكفينهم، كأنهم ذاهبون إلى نزهة، أو موعد.
في المدينة، لا نجرؤ على الاحتفاظ بكفن في بيوتنا، لأن رهبة الموت تستوطن مفاصلنا، ولا نمتلك شجاعتهم التي كانت تطيل أعمارهم.
نخاف من تذكُّر الموت، مساءً، لأننا لن نستطيع أن ننام، بينما هم كانوا ينامون على جنبهم الأيمن، ويقرؤون أورادهم، كأنهم لن يستيقظوا قبل الشمس يستعجلون في الذهاب بالجنازة، لأن «كرامة الميت دفنه»، فأشعر بأنني بلا كرامة.
ولا ينسوا أن يوصوا أبناءهم ألَّا يكتبوا أسماءهم على قبورهم، لاعتقادهم أن القبور المجهولة مرحومة. وحين ينتهون من دفن الميت يتصدَّق أهله بملابسه على المساكين، كأنهم لا يريدون أن يحتفظوا بأي ذكرى تخصه.
هؤلاء المساكين يرتدون ثياباً ميتة، ولا يأكلون اللحم إلا على موائد العزاء، لذلك يفرحون حين يموت شخص ذو وجاهة، فقد كانت المآتم بالنسبة لهم عيداً يحصلون فيه على الكساء والغداء المجاني.
ذات يوم غرق صديقي محمود في بركة مليئة بالطحالب. فقيه القرية أخبر والديه بأن الواجب دفنه بملابسه، لأنه شهيد. فرح والداه بتلك الفتوى لأنهم لم يكونوا يمتلكون ثمن الكفن، بينما أشفقتُ عليه أنه سيدفن بملابس مبلولة في مقبرة مطلة على الحيد تعبر منها الريح طيلة الوقت.
أتذكر أن عمتي اشترت لها كفناً، وكانت تتباهى بأنها جلبته من صنعاء، وليس من دكان الحاج غالب في سوق شهارة، لكنها توقفت عن ذلك التباهي حين أخبرتها عمتي الكبرى أن كفنها مجلوب من مكة المكرمة، ومغسول بماء زمزم، وممسوح بقبر النبي الأعظم، عليه وآله الصلاة والسلام.
* نقلا عن : لا ميديا