يأمر الله عز وجل عباده المؤمنين بذكره ذكراً كثيراً. ولكي نعرف معنى الذكر، وبالتالي معنى الذكر الكثير، علينا أولاً أن نبين أن معنى ذكر الله بلا شك ولا ريب أوسع مما تعورف عليه من لهج اللسان بذكر أسمائه سبحانه أو بتلاوة القرآن أو ترديد مفردات ذكره جل وعلا من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير وغيرها من الأوارد.
إذ يتجاوز ذلك إلى معنى أشمل وأكمل، وهو استحضار المؤمن لربه فلا ينساه ولا يلتفت إلى سواه، استحضاراً يليق به سبحانه حتى يملأ به الذاكر الوارد إناء قلبه، فيعود من ورد ذكره من تنزيه ربه وتعظيمه وتبجيله وإكباره بقدر استحضاره كما يعود وارد البئر أو العين بقدر وعائه من الماء.
وعودة وارد (ورد الذكر) من ورده بغير أدنى معرفة بربه، عودته من عين الذكر بغير تعظيم ولا تبجيل ولا هيبة ولا محبة ولا قرب مضيعة لوقته، مصرفةٌ عن صالح الأعمال، وإن أوهمه انشغال لسانه بأنه ذاكر.
مثله تماماً مثل عودة وارد عين الماء من وروده بغير أن يشرب أو يملا وعاءه بالماء، فهو ووارد السراب سواء، ولو غدا وراح مائة مرة، ذلك أنه رجع بغير حاجته التي ورد من أجلها وهي الماء، فلا هو قعد وارتاح ولا أذهب ظمأه ذلك الغدو والرواح.
وما أصدق قول الله عز وجل في هؤلاء وأمثالهم: “قل هل أنبئكم بالأخسرين أعمالا، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا”.
وهنا ملمحٌ دقيق خفي، وهو أن هؤلاء أحسنوا العمل فعلا لكنهم لم يصلحوه.
ولو راجعنا القرآن كله لوجدنا ما يزيد على خمسين آية في كتاب الله تذكر نصاً “الذين آمنوا وعملوا الصالحات”، ولم يقل: “آمنوا وعملوا أعمالا حسنة”، وفرق كبير بين العمل الحسن وبين العمل الصالح.
أن تقوم بالعمل ظاهرا هذا عمل حسن، لكن أن تتقن العمل حتى يصلح لأن يعرض على الله هذا هو العمل الصالح.
فالذهاب للصلاة عمل حسن، لكن أن تؤدي الصلاة بقيامها وركوعها وسجودها ومعالمها بخشوع هذا هو العمل الصالح.
أن تصوم عمل حسن، لكن العمل الصالح أن تؤدي الصيام كما أمر به الله.
أن تخطب وتدعو إلى الله عمل حسن، لكن أن تحضِّر لخطبتك ودرسك وتتلمس ما يحتاجه المخاطب وتلتزم بالحكمة والموعظة الحسنة هذا عمل صالح.
وبالتالي، أن تذكر الله بلسانك هذا عمل حسن، لكن أن تذكر الله بقلبك وتستحضره وتستحضر عظمته ومقامه بحيث يورث ذكرك هذا له قلبك ما يدفعك لامتثال أوامره ويردعك عن مقاربة نواهيه ناهيك عن مقارفتها، هذا هو العمل الصالح.
وقد أقر الله ذلك حين قال: “إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه”، وأي كلم طيب وكلمة طيبة أعظم من ذكر الله؟!
والكلمة الطيبة ليست مجرد كلمة يقولها اللسان وتذروها الرياح. الكلمة الطيبة كما وصفها الله: “ومثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها”.
أرأيتم؟! تؤتي أكلها كل حين؛ كل حين!
ومثال من انشغل بذكر لسانه عن التفكر في معاني ذكره تفكراً يقضي الحاجة والغاية التي من أجلها ذَكَر، وهي إذهاب ظمأ الذاكر أو ملء قلبه من معرفة الله بالقدر الذي يدفعه لفعل الأوامر ويحجزه عن ارتكاب النواهي.
مثال هذا المنشغل بذكر لسانه عن ملء قلبه بربه كمثل ولد قالت له أمه: اذهب إلى السوق واجلب لنا طحينا! ولمعرفتها بأنه كثير النسيان أوصته أن يكثر ذكر وترديد اسم الطحين طوال الطريق حتى لا ينساه. فظل الولد يردد: طحين، طحين، طحين، طحين... طوال الطريق، بل زاد ذكره إحساناً بتخصيص نوعه، وظل يردد ذهاباً وإياباً: طحين ذرة، طحين ذرة، طحين ذرة، طحين ذرة... وعاد من السوق وقابل أمه وهو يلهج بذكر طحين الذرة حتى صرخت مقاطعة له: توقف عن هذا يا ولد وقل لي ما صنعت؟! فأجاب: عملت بوصيتك ذهاباً وإياباً وقد ذكرت الطحين كذا ألف مرة!
أكاد أراهما وقد زاد غضبها وارتفعت حدة نبرتها: ماذا صنعت بشأن ما بعثتك من أجله؟!! أين الطحين؟!!
وكانت الصدمة أن الولد لم يأت بالطحين، فهل يرضي أمه كثرة ذكره للطحين مع عودته خالي اليدين منه؟!
لا أشك أنكم تكادون أن تسمعوا أمه صارخة باكية من غبائه وبلاهته: إنما نصحتك بكثرة ذكره كي لا تنساه فذكرته ونسيته!
والأدهى من ذلك أن الولد لا يزال يمنُّ عليها أنه حتى وإن لم يأتِ به، لكنه حسب قوله قد ذكره كما قالت طوال الوقت وأنه إنما انشغل بذكره عنه!! فتقاطعه وهي تندب حظها باكية، قائلة:
ليتك لم تذكره! ليتك لم تذكره!
* نقلا عن : لا ميديا