عندما يغيب الدين عن قضايا المجتمع يحضر الأدب.. ستسألني عن دور الفلسفة في خدمة المجتمع سأجيبك وكيف للدين والأدب أن يصلا بدون فكر.. فالفيلسوف هو القائم بكل هذه الأعمال.. والفلسفة هي الحامل لأي مشروع من شأنه نفع الإنسانية، لكن ماذا لو كان الفيلسوف رجل دين وأديبا في نفس الوقت..؟ لا بد أن يكون حامل المشروع أديبا بالضرورة، حتى لو كان نبيا، لأن الأدب نعمة ربانية على كل عاقل.
فالأدب مفهوم شامل ويندرج تحته الشاعر والروائي والناقد وحتى الفيلسوف، بمعنى أن الأدب أشمل من مفهوم الفلسفة، لأنه صورة كبيرة لمنظومة أخلاقية وقيمية تحمل تفسير مفهوم النفخة من روح الله في الإنسان، فهو بالتالي تالي النعم بعد أن سواه الله، «فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين»، فكل نبي أديب فيلسوف.. وفي الحديث «أدبني ربي فأحسن تأديبي». وفيه أيضاً «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق». وقوله تعالى «وما علمناه الشعر وما ينبغي له»، هذا ليس تحقيرا من شأن الشعر بل بيان بأن الشعر علم يهبه الله لبعض عباده وليس كما يشاع بأنه من إيحاء الشياطين، وهذا لا يناقض قوله تعالى «قل هل أدلكم على من تنزل الشياطين»، لأن سياق الآية يفند ويمقت الاستخدام السلبي للشعر، والتنزل فيها لا يعني التنزل بالشعر، بل التنزل بالوساوس التي قد تصاحب كل إلهام، وإلا فإن تنزل الشياطين بالشعر في ما يغوي الغاوين، يساوي ما يقوم به الساحر من استخدام السحر في التفريق بين المرء وزوجه.
وقوله تعالى «وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين»، يريد إحداث فارق مفهومي في ذهن المتلقي بين خصائص ومهام القرآن الكونية وبين خصائص ومهام الشعر الأرضية، فهذا كلام الله والشعر كلام البشر.. ومن حيث إن القرآن كوني وفيه محددات الأدب بكل أجناسه وأنواعه وأكثر من ذلك قوانين العلوم والنظريات المعرفية كلها فيه، والآية تبين الدور المخصص للشعر ولا مقايسة ولا مقارنة، وتحدي الله أن يأتوا بمثله ليس للمقارنة بل لانتزاع مكنون العجز من صدورهم، أليس الوليد وهو من جهابذة اللسان العربي وصفه بأنه «يعلو ولا يعلى عليه».
وقولهم في قوله «بل هو شاعر» هذه حالة وصفية لوعي متطور في تلقي البيان القرآني لديهم، يسبقها قولهم في قوله «بل افتراه» ويسبق هذه قولهم في قوله «بل قالوا أضغاث أحلام».. في الآية، لأنهم بعد ذلك قالوا «فليأتنا بآية»، وهذه هي الحالة الوصفية الأخيرة العالية للنبي وما جاء به النبي، والتطور في الحالات الأربع يدل على فوارق زمانية بين كل منها، ولم تحدث في آن، لأن قولهم في البداية «بل قالوا أضغاث أحلام».. من حيث المبدأ تدل على أن الآيات التي تلاها عليهم وعيد لهم بالويل والثبور.. فالأضغاث هي الكوابيس والأحلام المرعبة في المنام.. فوصفهم لما جاء به كان دقيقا جدا لعجزهم كجزء من منظومة اللسان العربي عن بيان حالة الأضغاث بالقدر الذي جاء به القرآن.. من جانب.. ومن جانب آخر كان وصفهم ذلك مصداقا لقوله تعالى في وصف عذاب فرعون وآل فرعون في الحياة البرزخ «النار يعرضون عليها غدوا وعشيا»، والشاهد قوله بعد هذا «ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب».. وبعد هذه تماما قال تعالى «وإذ يتحاجون في النار».. وفي ذكره تعالى قولهم «بل قالوا أضغاث أحلام» جاء بعد حديثه عن إغراقهم.. كشاهد مع الشاهد آنفا أنه يتحدث عن حالة عذاب مجرمين في فترة زمنية هي فترة بعد موتهم وقبل يوم القيامة.. هذا يفسر ماهية عذاب القبر وأنه مجرد رؤيا أحلام مرعبة وهي عبارة عن عملية عذاب نفسي.. من ناحية، ومن ناحية أخرى.. اعتراف ببيان وحي محمد وتفوقه على أي بيان إنساني عربي في حينه.. وقولهم «بل افتراه».. حالة تالية لهذا الموقف منهم.. معناها أنهم تلاوموا في ما بينهم لتسليمهم واعترافهم بعجزهم البياني أمام بيان محمد.. فحصل أن اتفقوا على تكذيبه.. ثم بعد ذلك بوقت نزلت آيات على محمد بنفس النمط من البيان متمثلا في وصف نعيم الآخرة بشيء من الخيال.. ما اضطرهم لوصف النبي بالشاعر.. ثم بعد حالة تطور في التسليم والهزيمة مع استمرار التنزيل كان إقرارهم بنبوة محمد مشروطا بإيتائهم بآية.. والمقصود آية حسية لذلك كان قولهم «فليأت بآية كما أرسل الأولون».. وهذا الموقف له تفسيران: الأول أن القرآن استطاع إقناعهم ونقلهم من خلال مراحل إلى حالة إقرار نهائي بأنه قد يكون محمد نبيا أوحي إليه لكنه مشروط -أي الإقرار- بأن يأتهم بآية حسية.. أي معجزة.. مع كون الإعجاز الحسي أوهن من الإعجاز المجرد عند العرب خاصة.. لأنهم حضارة لسانية وليسوا حضارة مادية.. وهذا الأخير هو التفسير الثاني. لكنهم نكصوا عن وعيهم بتطورهم اللساني بسبب الصدمة البيانية التي تلقوها من النبي. ولعلهم استأنسوا بأفكار يهود يثرب.. كون لهؤلاء، أي بني إسرائيل، جذور فكر مادي.. وشواهد من قصص بني إسرائيل مع موسى منها طلبهم أن يروا الله جهرة. وأسعى هنا لإنصاف العرب ولو جزئيا في إطار تصحيح مفهوم «الجاهلية».. وأنه لا يعني الجهل وإنما يعني الفترة الكفرية والشركية العربية بالواحد، وتلاها الكفر بمحمد.
والحقيقة أن العرب وصلوا لسانيا وبلاغيا وأدبيا بل وفلسفيا إلى مراحل تفوق كل الشعوب.. بما فيها اليونان.. والشواهد كثيرة في التراث العربي في العصر الجاهلي في الجانب الأدبي وأنوه إلى المعلقات الشعر كأقل إشارة.. وفي الجانب الفلسفي وأنوه إلى زهير بن أبي سلمى في الفلسفة الأخلاقية وقس بن ساعدة الإيادي.. في ما يشبه البحث عن علة العلل عند سقراط.. أضف إلى ذلك حياة الشعراء الصعاليك التي تشبه في جوانب «الكلبية»، التي سبقت «الرواقية» التي مهدت لظهور الأفلاطونية.. لكن يحسب للشعراء الصعاليك وضع أسس أفكار اشتراكية كحالة متطورة من فلسفة شيوعية المال وضعها حاتم الطائي.. في حين مهدت حياة الصعاليك أو وازت ظهور «عكاظ».. وهذه الأخيرة كانت أهم مراحل الإعداد لظهور الحضارة اللسانية العربية في أجلى وجوهها.. لكي يأتي القرآن كتاج وكميزان وكقانون عام لينتظم كل تلك المكونات الفكرية العربية وحتى العالمية.
وعلى ذلك يمكننا من منطلق قرآني اعتبار ذكر الشعراء في سورة الشعراء كمفهوم معرفي مطلق غير محصور على الشعراء بل يدخل في المفهوم سائر الأدباء والفلاسفة.. لكنه لم يسمهم الأدباء لكي لا يشمل الأنبياء كجزء من المنظومة الأدبية الإنسانية.. والشاهد ذكر الملائكة بالشمول وليس بالخصوص في قوله تعالى من قصة آدم وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة.. والمخاطب تحت عنوان الملائكة الجن أيضا.. وهذا يفضي بنا إلى مفهوم أن الشعراء ضمن أعلى درجات العقل.. في حالة آمنوا وعملوا الصالحات.. لأنهم بهذا سيدخلون دائرة العصمة من تنزل الشياطين.. وإلا فإن الشياطين تتنزل على الفلاسفة والروائيين والرسامين وليس تنزلهم مقصورا على الشعراء.. هذا بدوره ليس إصدار أحكام لأن القياس يعفي الشعراء من هذه المكانة بالتعالي أو في حالة تعاليهم عن السجود للفلاسفة.. فالفيلسوف أليق بالخلافة الفكرية من الشاعر. على أن الشاعر أقرب إلى التدين أكثر من كونه قريبا من الفلسفة مع كون الشاعر غارقا في فلسفة الحياة حتى أذنيه.. بينما المتكهن أقرب إلى الفلسفة.. مع كون الكهانة تعيش بالتدين ولا تمارسه كحياة.. والشاهد في قوله تعالى وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون.. ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون.
* نقلا عن : لا ميديا