التلاعب بخرائط البلدان كالتلاعب بالعقول ترسمه وتصنع أزماته وحروبه وتديرها وتستثمرها الدول المهيمنة على سياسة العالم باسم العولمة القائمة وليس النظام العالمي حلم كل حر يؤمن بأن القول الفصل في تحقيقه يجب أن يبقى للحرية والعدالة لكل الشعوب بعيداً عن النفاق والمخاتلة ، وهذه معادلة بسيطة ومرَكَّبة في آن ، فهي بسيطة لقيامها على مبادئ قانونية وإنسانية وأخلاقية لا خلاف جوهري حول أهميتها لكل الشعوب والدول التي تمثلها سلطات منتخبة انتخاباً ديمقراطياً حراً لا تسليم فيه لغير العلم ، وهذا ما يصنع السلام الأبدي لكل العالم ، والمعادلة مركبة لأن إلزامية المبادئ القانونية لن تتحقق إلا لدول حرة قادرة على انتزاع استقلالها وحفظ سيادتها تحترم القانون وتطبقه ومصدر هذه القدرة والاستقلالية تنبع من داخل كل دولة ، أما كيف يكون ذلك في ظل هذا المناخ الدولي الواقع تحت هيمنة المصالح المتوحشة المعتمدة على تضليل الشعوب وخلق أزمات ومشكلات داخلية تلهيها بها مثل الإرهاب مع الإيحاء بأن مصدرها دول أخرى كمبرر للاعتداء ، هذا ما صنعته أمريكا وبريطانيا والصهيونية في اليمن والعراق وأفغانستان وسوريا وغيرها وخلقت فيها أنظمة مستبدة ومتخلفة لتكون مصدر أزمات مستمرة تبرر التدخل المستمر في شؤونها مع تغذية الصراع الداخلي على السلطة تحت عدة مسميات أخطرها السباق على الحكم باسم السنة والشيعة وهذا حال الأمة المتجدد منذ تقسيم بلدان العرب والمسلمين تحت عنوان تركة الرجل المريض أي الإمبراطورية العثمانية التي قامت على الغلبة باسم الدين وهو شكل للحكم أثبتت التجارب عدم صلاحيته للبقاء حيث تم تفكيك هذه الإمبراطورية بمعاهدة سرية (سايكس بيكو) بين بريطانيا وفرنسا وبمصادقة الإمبراطورية الروسية وإيطاليا في 16/5/1916 ومع كل التجارب القاسية في الحكم عن طريق استملاك الحق الإلهي ما تزال فكرة الوحدة بالقوة والاستعداد المستمر لطلب التدخل الأجنبي والاستقواء به على شركاء الوطن هاجس يهيمن على العقول المتهافتة.
وهنا نتساءل ما السبيل للخروج من هذا النفق؟
الأحرار وحدهم يمكنهم تخليص بلدانهم من حالة الاستلاب هذه والبحث عن سبل تحقيق الوحدة الحقيقية المبنية على الحوار والشراكة وليس على القوة والإلحاق وسفك الدماء الذي يصنع الأحقاد وينمي تداول روح الانتقام بدلاً من التداول السلمي للسلطة ، ومن أمثلة التجارب الوحدوية المشينة تعامل القوى السياسية اليمنية مع وحدة اليمن باستخفاف أدى إلى انتكاسة سريعة تلتها حرب ، فقد حلم اليمنيون بتحقيق وحدة نموذجية تقوم على أساس التسليم بالتعددية الحزبية والسياسية لدولة الوحدة عام 1990 كمنطلق هدفه عدم السماح لأي حزب أو جماعة أو قوة سياسية بالاستئثار بالسلطة والاستقواء على بقية الأحزاب والقوى السياسية بالخارج أو باستخدام القوة ، ولكن سرعان ما تحول الحلم إلى كابوس وطريق للتمزق بفعل النفاق السياسي والتغاضي عن ثغرات الدستور التي مكنت رأس النظام من ممارسة لعبة الرقص على رؤوسنا لا رؤوس الثعابين بالمكر والخداع والتنكر لاتفاقية الوحدة وللدستور ثم لوثيقة العهد والاتفاق وكل الاتفاقات لخلق مبررات شن الحرب القذرة ضد الجنوب في 1994 باسم حرب تعميد الوحدة بالدم ولم تكن سوى حرب القضاء المبرم على الوحدة السلمية لأن الوحدة القابلة للبقاء إنما تبنى بالتفاهم والوفاء بالعهود لا بالدماء ، ومن المؤكد أن شريك الوحدة الآخر يتحمل جزءا من المسؤولية بقدر تفريطه وعدم بذل العناية المطلوبة لتكون صياغة دستور دولة الوحدة قادرة على صيانتها وحماية الدولة من أي اختراق وأي محاولة للاستيلاء على السلطة ، ولأنه كان يعلم طبيعة رأس النظام الذي سيشاركه الحكم بل الذي سيكون بيده القرار الأول في ظل نظام سياسي لم يترسخ فيه بعد عمل المؤسسات فصلاحيات رأس النظام الواسعة تتيح له العبث ببقية الجسد !، والسنوات الأولى للوحدة لا يفترض أن يتحكم فيها رئيس الدولة أو مجموعة سياسية تمثل طرفا من طرفي الاتفاق وإنما يجب التوافق على كيفية معالجة المشكلات الناشئة عن اندماج دولتين ونظامين سياسيين مختلفين أيدلوجيا وثقافياً ، أما أن يتفرد فرد معروف بفساده ليجير الوحدة إعلامياً كمجد شخصي ويتلاعب بمضمونها ويشهر السيف في وجه الشريك الذي أظهر له منتهى الود والبشاشة خلال مباحثات وضع اللمسات الأخيرة لاتفاقية الوحدة ثم قلب له ظهر المجن عقب التوقيع عليها مباشرة فهذه جريمة قانونية وأخلاقية لن ينساها التأريخ ونموذج من أفظع نماذج الانتهازية التي تفقد الثقة بالسياسة وتعطي أبشع الصور عن علاقة السياسة بالأخلاق وهو ما اعتبره البعض مبررا لاستقواء الطرف الآخر بالخارج وهذا خطأ وطني جسيم لأنه لا مبرر للاستقواء بالخارج ضد طرف محلي خاصة حين يكون المستقوى به شبيه بأمريكا وبريطانيا والسعودية والإمارات لأن خيوط اتصالها بالطرف الآخر ربما كانت أقوى كما أن تأريخ علاقة السعودية باليمن معروف ، وقد ساهم بعض الأعزاء من دعاة الوحدة بأي ثمن في الوصول لهذه النتيجة ؛
الغاية لا تبرر الوسيلة أبداً إلا عند من لا يفرق بين السياسة والخساسة ، فالمبادئ عنصر أساس لحماية أي نظام سياسي وليس العكس.
مضت دون هديٍ
وحطَّت رحال الصبابة تحت التراب
أنَّى لأجنحة الحلم أن تسترد الصباح
وأن تزرع الورد في خد فاتنتي ياصديقي؟!
والشوق متكئ فوق جفن الزمان الملطخ بالدم.