جنى المحبون على قلوبهم بجمر الهوى والشوق، وعلى أجفانهم بالسهر، وعلى أجسادهم بالنحول، والدلائل واضحة في أشعارهم وضوح الشمس.. ألم يقل المتنبي:
ما لي أكتم حبا قد برى جسدي
وتدعي حب سيف الدولة الأممُ
وهل يستوي الحب عند الشعراء..؟ وأهم من ذلك علينا أن نعرف ما هو الحب لديهم..؟ فهو عند الزبيري:
«وما الحب إلا جنون الحياة
وجانبها الغامض المشكلُ»
وعند نزار:
«الحب في الأرض بعض من تخيلنا
لو لم نجده عليها لاخترعناه»
وعند عباس المطاع:
«الحب معجزة الحياة لو أنها
حلت لعاش الناس كالأملاك»
أي التعاريف أجمل؟ البيت التالي للشاعر عباس المطاع يعزز حل الإشكال:
«الحب ما لم تخلده قداسته
يظل قصة أهل القيل والقالِ»
فالقداسة في حب المطاع أصل.
يقول الشاعر حسين أبو بكر المحضار في أحد اللقاءات الصحفية إنه يهوى لكي يقول الشعر.. مبررا صحة ذلك بأن الشعر موهبة خلقت مع الشاعر.. أما الهوى فجاء بعد ولادته. أما الشاعر عباس المطاع فعلى العكس من ذلك فيقول:
«أنا أنا أهوى الوصال
وليس هاوي بريد
أهوى الجمال والدلال
من قرب مش من بعيد»
فالشعر لدى عباس المطاع وسيلة والهوى غاية وبالعكس فالهوى لدى المحضار وسيلة والشعر غايته، ولأن الشعر والحب من القلب ودليل ذلك قول المطاع:
«يا مقيما في جناني
وعلى العين محرم»
ديوان «صوت الوطن» قرأته قبل سنين.. وكتبت هذا: وهو الديوان الثاني للشاعر عباس المطاع وقد قام بتأليفه وطبعه أخوه المهندس علي المطاع بعد وفاته.. وقد كتب مقدمة في بداية الديوان وفيها يثني على بعض الأشخاص المهتمين الذين ساعدوا في إخراج هذا الديوان إلى حيز الوجود، وإن كان معظمه محفورا في ذاكرة الشعب لأن قصائدة مغناة من قبل العديد من الفنانين اليمنيين، ويقول في مقدمته المهندس علي المطاع إنه بصدد إعداد الديوان الثالث للطباعة.. كما يدعو كل من كان له صلة بالشاعر المرحوم عباس المطاع بأن يزوده بما لديه من قصائد الشاعر، والظاهر أن الشاعر عباس المطاع لم يكن يهتم بجمع قصائده وشهرته بقدر ما كان يهمه رفعة وتقدم الوطن ومعالجة قضايا الشعب وقد توفي قبل إصدار أي ديوان له..
والحقيقة أن قصائد الديوان كلها وطنية في نظري لأن القصائد الغزلية أو العاطفية مثلا، لا تخلو من افتخار الشاعر بانتماء محبوبته إلى أرض اليمن.
ولم تكن تخلو القصائد الوطنية من التغزل أو الجيشان العاطفي وحتى قصائد المراثي هي مراث لأشخاص وطنيين أو ثائرين.
فالتلاحم أو الاشتراك موجود بين كل قصائد الديوان.
كما أن الاشتراك في البساطة والوضوح كائن بين القصائد العامية والفصحى.. إذ القصائد العامية لا تبدو معقدة أو بحتة بل إنها أقرب إلى الفصحى وهذا ما يسمى الشعر الحميني، كما أن القصائد الفصحى لم تكن فصحى بحتة ولكنها فصحى مبسطة قريبة من العامية وهذا لعمري أمر لا يفعله إلا الراسخون في الأدب العربي كأمثال طه حسين وعبدالله البردوني، لأنهم أدركوا ماذا تريد الشعوب منهم وماذا يريدون هم من الأدب ذاته إذ إن هؤلاء الشعراء ومن بينهم شاعرنا عباس المطاع، اقتربوا من الشعب أكثر أو بقدر اقترابهم من الشعر فكان الشعر عندهم وسيلة لا غاية كما كان الحال عند الكلاسيكيين غير أن شاعرنا المطاع نهج نهجا رومانسيا خاصا، فلا تجد في شعره العاطفي ميلا إلى جسد المرأة كوصف النهود أو الأرداف.. فحتى الشعراء العذريون لم تخل قصائدهم من ذكر مفاتن الجسد للمرأة فتجد في شعر المجنون قوله:
«ومفروشة الخدين وردا مضرجا
إذا جمشته العين عاد بنفسجا
فقلت لها مني علي بقلبة
أداوي بها قلبي فقالت تغنجا
بليت بردف لست أسطع حمله
يجاذب أعضائي إذا ما ترجرجا»
وتجد ذلك في قول أبي القاسم الشابي:
«كل شيء موقع فيك حتى
لفحة الجيد واهتزاز النهود»
ولهذا نلحظ تصوفا واضحا في غزليات وعاطفيات عباس المطاع أكثر من غيره يتجلى ذلك في بعض أبياته على سبيل المثال:
«روح روح الذي روحه فداك
يا قرة العين يا نور البصر»
كذلك:
«يا لائمي فيه وهو روحي وليش الملامة
ما فيش للروح بديل»
ويدلل على قداسة الحب في شعره بقوله:
«والحب لو لم تخلده قداسته
يظل قصة أهل القيل والقالِ»
وبهذا يتغلب شاعرنا على المجنون وغيره من العذريين.
ويعتبر التشبيه أو الرمز للمحبوب بالقمر أمرا غير تقليدي عند الشاعر عباس المطاع كما قد يظن البعض عند قراءة قصائده أو الاستماع لها من حناجر المغنين.. لأن القمر في شعره له مدلولات أخرى غير المتعارف عليها، والمتمثل في تشبيه وجه المحبوب بضياء القمر واستدارته، فالرمز لديه ناتج عن معرفة خلفية فكرية وثقافية، بالفلك.. الكون وما فيه.. من الكواكب والأقمار والنجوم فهو يسبح إلى أقرب الأقمار ويدور حول الأرض التي يعيش عليها.. وهذا ارتباط وثيق، فالشاعر علاقته وارتباطه بمحبوبته كعلاقة الأرض بالقمر ويتكرر وصف محبوبته بالقمر في كثير من قصائده بصورة ثابتة المبدأ:
«الناس قد وصلوا القمر
واستعذبوا طول السفر
وبرغم قربك يا قمر
مني بخلت بخطوتين»
كذلك:
«متى أراك يا هزار غصن الأراك
فحال مضناك حالك يا قمر
متى تشرف وتنزل من سماك
وأخرج برؤية محياك الأغر»
و: «يا ذي عبرت الفضا بالله كيف الحقيقة
لوما وصلت القمر
بيني وبين القمر حقي مسافة دقيقة
ولا لقيت له أثر
ولا قدرت ألمحه حتى وهو في طريقه
وأنا قوي النظر
ما زد دريت هل أنا في حلم أو في حقيقة
ولا عقلت الخبر»
كذلك:
«ليل وا دان
وا ليل واين القمر»
فكما أنه لا ليل ولا أرض بدون قمر فإنه لا سهر لعاشق بدون حبيب.
* نقلا عن : لا ميديا