في الثالث والعشرين من آذار/ مارس عام 1949، وفي رأس الناقورة، قام المقدم توفيق سالم، والمقدم جوزيف حرب، بالتوقيع نيابةً عن لبنان، على ما عُرف بـ»اتفاقية رودس»، بين الدول العربية والكيان المؤقت، وذلك بحضور الوسيط الدولي في حينها، رالف بانش. وقد وقعت كلٌّ من مصر والأردن وسورية على الاتفاقية ذاتها بشكلٍ منفصل، وفي تواريخ متتابعة، وكانت سورية آخر الموقعين، في 20 تموز/ يوليو 1949.
في اتفاقية الهدنة هذه، تم تحديد ما عُرف لاحقاً بالخط الأخضر، وهو الخط الذي ابتلع 78% من مساحة فلسطين التاريخية، وظل سارياً حتى العام 1967، حيث اعتدى الكيان المؤقت على الدول العربية في الخامس من حزيران/ يونيو، فيما عُرف اصطلاحاً بالنكسة.
في ذلك الوقت من عام 1949، عام توقيع الهدنة، والدول العربية وقعت ما يشبه صك استسلام، فهي وقّعت بعد هزيمةٍ مخزية ومذلة أدّت إلى ضياع فلسطين، فيما عُرف بالنكبة، وأدّت إلى رسم خط حدودٍ من عدم، وهو الخط الأخضر، حيث كانت قبله أراضي فلسطينية. ورغم ذلك لم يستخدم أحدٌ شبهة التطبيع أو شبهة الاعتراف بالعدو، كأثرٍ مباشر أو غير مباشر لتوقيع تلك الاتفاقية.
وتكررت اتفاقيات الهدنة هذه بين كلٍّ من مصر وسورية والكيان المؤقت، على إثر حرب تشرين الأول/ أكتوبر عام 1973، حيث وقعت سورية اتفاقية الهدنة عام 1974، وقد تكرر في أول بنودها ما تم التوقيع عليه في اتفاقيات «رودس»، حيث نفى شبهة الاعتراف، وينص ذلك البند على أن «أيّ حكم من أحكام هذا الاتفاق لا يمس بأيّ حالٍ من الأحوال، حقوق أحد الطرفين ودعواه وموقفه من الحل السلمي النهائي للقضية الفلسطينية»، ورغم ذلك لم يُثر أحدٌ شبهة الاعتراف أو التطبيع.
وكثيرةٌ هي الأمثلة في هذا المضمار، على هذا النوع من الاتفاقيات، التي لا تمس حقوق الأطراف المتعاقدة ومواقفها من أصل الصراع، كالتفاهمات التي تتكرر مثلاً بعد كل عدوانٍ على قطاع غزة، بين المقاومة وكيان العدو، ولم يُثر أحدٌ كذلك شبهة تطبيعٍ أو اعترافٍ بالكيان.أمّا في لبنان، حيث تم توقيع وثيقة تعيين الحدود، وهي عملياً تفاهم لا يتناسب على الإطلاق لناحية الحجم والنتائج والآثار، مع اتفاقيات «رودس»، ولكن شبهة التطبيع والاعتراف لحقت لبنان الدولة، وبشكلٍ أكثر خصوصيةً وأنكى استهدافاً، لاحقت لبنان المقاومة، والأشدّ مضاضةً أنّها تصدر عن أطرافٍ مطبّعة أو أطرافٍ أكثر تطبيعاً، وأطراف «متأسرلة» أو أكثر «أسرلة»، وأحسنهم أخلاقاً يتمنى التطبيع ويرجو التصهين!
وهؤلاء يدركون أنّ وجود المقاومة يمنعهم من تحقيق الأمنيات والرجاءات، فيثيرون حولها هذه الشبهة، على رجاء أن تمنحهم ثغرة للنفاذ نحو «الأسرلة»، حيث إنّه بما أنّ أصحاب السلاح وقعوا في فخ التطبيع، وبما أنّ مهمة السلاح قتال الكيان المؤقت، فلم يعد للسلاح من مهمة، حتى أنّ نخبوياً سعودياً غرّد بهذا المعنى، حيث قال بانتهاء مسرحية العداء بين حزب الله والكيان، وبالتالي يتوجب عليه تسليم سلاحه.
النفطيون وأتباعهم في لبنان يدركون أنّ العداء بين المقاومة والكيان المؤقت هو عداءٌ جذريٌّ متأصل، لا مساومة فيه ولا حلول وسطى، وطبيعته الديمومة طالما بقي الكيان؛ لكنهم لا يعرفون كيف سيتمكنون من إنهاء هذه الحالة، وكيف سيتهودون و»يتأسرلون» بوجود المانع الصلب والقاطع، وهو سلاح حزب الله وعقيدته المعادية لوجود الكيان لا حدوده، ولا يعرفون كيف سينفذون من هذا السدّ، فيحاولون إثارة هذه الشبهة، علها تكون ثغرتهم؛ لكن ساء ما يحكمون.
قال السيد حسن نصر الله تعقيباً على الاتفاقية وفكرة الترسيم: «بالنسبة لنا في حزب الله فإنّ حدودنا تمتد إلى بحر غزة»، وهذه القطعية في فصل الخطاب تنفي أصل الشبهة المنفية قانونياً ودبلوماسياً وسياسياً واقتصادياً ومعنوياً من أصلها، فلولا هذا السلاح لمّا كان هناك من نفطٍ ولا غاز، وليس طالما أصبح هناك غاز فلا داعي لوجود السلاح، لأنّ الغاز لا يحميه من عدوٍّ متربصٍ سوى السلاح.
كاتب وباحث فلسطيني في الشؤون السياسية
* نقلا عن : لا ميديا