شكل المال النفطي عمود تأسيس السعودية وتكوينها، حتى أصبحت في سبعينيات القرن العشرين تقوم بدور الامبريالية الفرعية في المنطقة العربية والعالم الثالث، أي أداة الولايات المتحدة الأمريكية في بسط نفوذها على دول العالم الثالث المحتاجة إلى المساعدات السعودية.
عملت السعودية منذ ستينيات القرن العشرين وحتى اليوم على تنفيذ المشاريع الأمريكية في تدمير العراق وسوريا وليبيا واليمن، وإغراق مصر في الأزمات الداخلية، وهو ما وصم هذه العقود بـ«الحقبة السعودية».
مما ينقله صاحب كتاب «البترول والسياسة في المملكة العربية السعودية»، توفيق الصالح، ما قاله القائد الفرنسي، جورج كليمنصو، عن أهمية النفط: «من الآن فصاعداً ستكون نقطة النفط عند الشعوب والأمم معادلة لنقطة الدم». ويبدو أن نقطة النفط قد تجاوزت في أهميتها نقطة الدم. بدأت المملكة السعودية في التحول من سلطنة في إمارة نجد إلى مملكة ممتدة على معظم شبه الجزيرة العربية، وذلك على يد بريطانيا. ففي السادس والعشرين من ديسمبر 1915م، أصبحت سلطنة نجد وتوابعها من نواحي الجزيرة العربية خاضعة للحماية البريطانية، بعدما وقّع عبد العزيز آل سعود، سلطان نجد، على معاهدة «دارين» مع السير برسي كوكس، المعتمد البريطاني في الخليج. وقد نص الاتفاق على حماية بريطانيا لابن سعود، مقابل عدم اتصاله أو تعاونه مع أي دولة إلا بإذن واستشارة بريطانيا. وأقرّت الاتفاقية راتباً له مقداره 60 ألف جنيه في السنة.
في أواخر العشرينيات، عانى ابن سعود من الإفلاس، بحسب ما يورده توفيق الصالح في كتابه آنف الذكر، نقلاً عن مذكرات جون فيلبي، مما دفعه لأن يقول لمستشاره البريطاني (جون فيلبي): «لماذا يا شيخ فيلبي توقف أصحابنا الإنجليز عن البحث عن الزيت؟ إنني بحاجة إلى المال يا شيخ فيبلي»، فأشار عليه فيلبي بدعوة شركات البترول الأمريكية المملوكة لأثرياء العالم لعرض الموضوع عليهم، فكلفه ابن سعود بالاتصال بهم، وهو ما يورده فيلبي في كتبه، بما فيه من تفاصيل شكلت إحراجاً للأسرة الحاكمة في السعودية، وكانت حريصة على طمرها. وقتها، كان ابن سعود بحاجة للمال ليستمر في دفع الرشاوى لمشايخ القبائل، وليستمر في مشاريعه التوسعية في عسير وجيزان ونجران. لقد كان بحاجة للمال ولو اضطر لرهن ما تحت يده من سيادة.
في عام 1926م، حصل ابن سعود على الاعتراف بحقه في الاتصال بجهات خارجية دون الاستئذان المسبق من المندوب السامي البريطاني. فبدأ فيبلي بالتواصل مع الشركات الأمريكية، بل وتحول إلى عميل مزدوج للأمريكيين والبريطانيين نظير مكافآت وهدايا وراتب تدفعه له الشركات الأمريكية مدى الحياة. تواصل فيلبي مع شارل كارين الذي كان أحد أعضاء اللجنة التي شكلها ولسون لمعرفة المتطلبات السياسية للمنطقة، كمدخل لحلول أمريكا بدلاً عن بريطانيا في منطقة الشرق الأوسط. إن شركات البترول العالمية عملت على انتزاع السيادة والثروات في العالم
نصّبت بريطانيا ابن سعود ملكاً على الجزيرة العربية، ومنحته الاستقلال بعد أن تعهد لها بعدم التعرض لمساعيها الرامية إلى إقامة الوطن القومي لليهود في فلسطين. ووقّعت معه عام 1926م اتفاقية التعاون والتعهد البريطاني بالدعم العسكري. كان احتياج ابن سعود للمال لتمويل مشاريعه التوسعية، وعزوف بريطانيا عن التنقيب عن البترول في السعودية، دافعاً له لأن يتواصل مع الأمريكيين عن طريق مستشاره جون فيلبي. ومن هنا، بدأ النفوذ الأمريكي بالتمدد والسيطرة من خلال شركة «ستاندر - كاليفورنيا» التي وقّعت اتفاقية الامتياز في التنقيب عن البترول في أراضي المملكة.
وعملت الشركة على تسليح جيش ابن سعود وتمويله بالمال في حروبه ضد اليمن عام 1933 - 1934م، مما جعل الغلبة في هذه الحرب لابن سعود، فقطف ثمار ذلك ضم عسير وجيزان ونجران إلى مملكته. عملت هذه الشركة مع «أكسون» و«تكساكو» و«موبيل»، وهي الشركات المالكة لـ«أرامكو»، بالتعاون مع المخابرات المركزية الأمريكية، في إسقاط انقلاب محمد مصدق وحكومته في إيران عام 1953م، بل وعملت «أرامكو» على تشجيع وتمويل العديد من الانقلابات في المنطقة، من بينها انقلاب حسني الزعيم في سوريا، والذي دعمته من أجل مرور خط أنابيب النفط عبر سوريا إلى صيدا في لبنان، وكذلك دعمت انقلاب أديب الشيشكلي.
إن شركات البترول الأمريكية والبريطانية والفرنسية العالمية عملت على انتزاع السيادة والثروات في العالم الثالث، ليس فقط بتدبير الانقلابات والهيمنة على أنظمة الحكم في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، بل إنها وقفت في الأمم المتحدة ضد إصدار قوانين دولية تحمي ثروات هذه الأمم. لم يتوقف نفوذ هذه الشركات عند صناعة الحكام والسياسات، بل تعدت ذلك إلى قمع العاملين في هذه الشركات بشكل مباشر، ومن خلال أجهزة الأمن التابعة للأنظمة التي صنعتها.
ففي السعودية، وبعد قيام العديد من الإضرابات والمظاهرات والاعتصامات للعاملين في شركة «أرامكو»، أصدرت السعودية في يونيو 1956م قانوناً يحرّم العمل النقابي وأشكال الاعتراض والمطالب العمالية في أي شركة من شركات الامتياز في المملكة. دعا الملك سعود، الرئيس المصري جمال عبد الناصر، إلى زيارة المملكة، فكانت الزيارة في سبتمبر 1956م في الظهران، وخرج عشرات الآلاف لاستقباله والهتاف بالشعارات المؤيدة له، في حضور جماهيري من المدن والقرى القريبة لم يسبق له مثيل في تاريخ المملكة، واندفع الناس نحو سيارة جمال عبد الناصر. كل ذلك جعل الأسرة المالكة تشعر بتجاهل الجماهير لها، والحسرة وخيبة الأمل في توظيف الزيارة لصالح أهدافها.
تابع الأمريكيون من قاعدة الظهران وإدارة «أرامكو» زيارة ناصر والتفاف الجماهير حوله ودلالة الشعارات التي كانت الجماهير ترددها، مما يعكس حجم المعارضة ضد النظام، فاتخذوا قرارهم بتنحية الملك سعود، وإعادة النظر في سياسات النظام وفقاً لمتطلبات الصراع في الشرق الأوسط، والدور الامبريالي الفرعي للكيان السعودي.
* نقلا عن موقع العربي