الإهداء
* إلى روح الشهيدة أمي، وإلى روحي الشهيدين “حسن” و”لؤي” نجلي شقيقي عبد الله صبري فارس الإعلام والكلمة، الذين استشهدوا في قصف طيران العدوان السعودي الأمريكي على حي الرقاص بصنعاء في 16 مايو 2019.
* إلى شهداء الوطن الذين ارتقت أرواحهم إلى السماء، وهم يدافعون عن وطن تكالبت عليه قوى الغزو والمرتزقة من كل حدب وصوب.
*إلى أولئك الأبطال، رجال الرجال، الذين صمدوا بكل بسالة أمام ضربات الـ ” F 16″ وطائرات الأباتشي، وقهروا تحالفاً أراد لليمن الذل والقهر والعبودية والانكسار.
– 1 –
لسنوات كثيرة لم تهدأ هذه البلاد من الحروب، وفي الحروب أيضاً تحضر المآسي والآلام بكل تفاصيلها.
الدموع لم تعد حكراً على النساء فحسب، وإنما أصبح للرجال نصيب منها، ومن لم يبك في هذا الزمن مع كثرة الأهوال والمصائب فمتى يبك؟
يبكي الرجال!
نعم، يبكي الرجال!
يبكون حينما ينتشلون الأطفال الرضع من بين الأنقاض بعد الغارات اللعينة التي تلقيها طائرات العدوان بلا رحمة أو شفقة، وحين يرون الشباب يساقون إلى المحرقة بلا وعي ليقاتلوا مع الغزاة ضد الوطن، وحين يرون النازحين يجولون في الشوارع كأنهم هياكل عظمية، طالبين العون من الناس، فلا يلتفت إليهم سوى الطيبين فقط.
أما الدموع التي لا يمكن حبسها، ولا كفكفتها، وتحضر بدون استئذان، ويتبعها البكاء المرير فهي حين يتم انتشال جسد “أمك” أو “أحد أقاربك” من بين الأنقاض، بعد أن يتعربد صاروخ “سعودي” لئيم فيقصفهم وهم نيام، أو في الأسواق والطرقات، وفي قاعات العزاء والأفراح، أو في المدارس، أو في أي مكان ما.
الوطن كله يستباح، الطيران السعودي، الإماراتي، الأمريكي، الصهيوني يخترق كل شيء.
العدو يشدد الحصار المطارات مغلقة ومدمرة.
الموانئ لا يدخلها سوى النزر اليسير من الطعام والغذاء، والعالم يعلن الصمت المطبق والنظر إلينا بعيون واجفة أتتساءل الآن: لماذا يبكي الرجال؟
– 2 –
مساء الخميس – السادس والعشرون من مارس اذار عام 2015 – كان يوماً فاصلاً في تاريخ اليمن.
في ذلك المساء العليل، الدافئ في حرارته، وتحديداً بعد صلاة العشاء، كنت مع رفيقي دربي وأعز أصدقائي، الحاج “عبد الله”، الطاعن في السن، ذي الظهر المنحني، والجسم الهزيل، المكسو رأسه ولحيته بالشيب الأبيض، ومحمد أبو زيد، الصديق الوفي الذي لا يفارقني ولا ينساني ويفضلني حتى على إخوانه.
في تلك الليلة تحدثنا عن أمور كثيرة، كنا نتجول من زقاق إلى زقاق، ومن حي إلى حي في مدينة صنعاء القديمة، هذه المدينة العريقة، المزدانة بمبانيها الأثرية الفريدة، وبجمالها البهي النادر.
أضواؤها الساطعة، كانت تضفي لها لمسات تزين وجهها البديع، وهدوؤها العجيب يعطينا المزيد من التجول في أحيائها الدافئة.
قلت ممازحاً الحاج عبدالله: إنك رجل كبير في السن، والسفر قد يتعبك ولن تقوى على المسير، فالأفضل لك أن تعود إلى منزلك وتخلد في نومك.
نظر إلي مبتسماً بعد أن توقف عن المشي، ثم هز عصاً لا تبارح يده اليمني، وأراد أن يضربني بها، ثم قال لي : لا تقلق علي يا عبد الرحيم فأنا أكثركم قوة وتحملاً، وسنرى من سيتعب، أنا أم أنتما؟
نحن أصليون، عاركنا الجبال، والسهول، والأودية، في طفولتنا، ثم لا يغرك أن جسمي قد فتر، لكن لدي قوة وصلابة توازي جبل نقم هذا الذي تراه أمامك.. كان يشير بأصبعه إلى الجبل الشامخ “نقم”، المضي بالإنارات الضوئية الباهتة.
قلت في نفسي: إن الحاج عبد الله يبالغ في كلامه! وصمتنا برهة، ونحن نتمشى في حارة القاسمي بصنعاء القديمة.
الحاج عبد الله كان بالفعل قوياً رغم ظهور بعض التجاعيد على وجهه، وكان إذا أصر على فعل شيء ما فإنه ينفذه، وفي أحيان كثيرة، كان يفاجئني بقدرته على إنجاز أشياء ترهقنا نحن الشباب ولا نقدر على فعلها.
إن صنعاء القديمة لوحة فريدة أبدع الله فيها مخزوناً روحانياً لا تجده في أي مكان آخر، هكذا أخبرني الحاج عبدالله، والذي سرد لنا في ذلك اليوم كلاماً كثيراً عن هذه المدينة الحضارية العريقة، وكيف تمكن سكانها من مقاومة الغزاة الأتراك الذين حاولوا احتلالها قبل سنوات كثيرة.
قال لي بلغة حازمة وصادقة : “هذه صنعاء يا بني، عاش فيها الآباء والأجداد في سلام ومحبة لألاف السنين.. انظر بتمعن إليها، ستحدثك المباني عن تاريخها البهي، انظر إلى أسواقها، إلى سكانها، إنهم طيبون، لا تفارق البسمة وجوههم المشرقة.
كان كلام الحاج عبدالله رائعاً، وكنا حين يتحدث “بجدية” ننصت إليه ولا نقاطعه، وكأنه خطيب على منبر الجامع ونحن المصلون، فالكلام محرم أثناء الحديث الجاد للحاج عبدالله.
هو يعتز بوطنه، وانتمائه لليمن، يلبس الملابس اليمنية التقليدية، الثوب الأبيض، والكوت، وعلى رأسه “شال” أحمر يعتمره، ولحفة بيضاء على كتفه.
أما صديقي محمد أبو زيد في الأربعينيات من عمره، فكان يرتدي ثوباً أبيض وكوتا أسود، إضافة إلى جهازه الأخضر وجنبيته الصيفاني.
كان قليل الكلام، يكثر من الضحك حين يتحدث أحدنا.. إنه رجل قل أن تلد النساء مثله، ليس هناك في الحي من لا يحب محمد أبو زيد، فهذا الرجل اجتماعي بالفطرة، يساعد الناس، يواظب على الصلوات الخمس في المسجد، سخي، ويكرم الفقراء.
لمحمد أبو زيد “دكان صغير” يقع على ركن ضيق في سوق الملح بالمدينة، يبيع فيه الزبيب، واللوز، والفستق، والتمر، وكل أنواع المكسرات.
كان يقول لي دائما : “الحمد لله الذي سترني وفضلني على كثير من عباده”.
وحين كانت تشتد بي الظروف وأشعر بأن العالم قد أصبح قطعة من الفحم الأسود، وتتعاظم مصائبي، لا أجد سنداً ولا معينا لي سوى هذا الرجل الكريم.
كان كثيراً ما يقدم لي النصائح بأن أترك عادتي السيئة في التعامل مع زوجتي وأطفالي.. أنا شديد الغضب، لا أجيد المعاملة الحسنة مع زوجتي، ولا أرغب بالمكوث كثيراً في منزلي.
ليست زوجتي امرأة سيئة، ولا شريرة، إنها تحمل قلباً نقياً طيباً، أما أنا فأن اليأس والأحزان كانا يسيطران علي باستمرار، ولا أجد راحة أو لذة للحديث إلا مع الحاج عبد الله وصديقي الوديع محمد أبو زيد.
كنت جندياً في القوات المسلحة عام 2005، غير أني تركت “الجندية” بعد شجار مع أحد الزملاء على شيء تافه، كان الجميع يتوشوشون في ما بينهم ويقولون: “إنني عصبي”، ذو مزاج سيء، هم صادقون فيما يقولون: لقد كنت أشعر بذلك وكم وجهت لنفسي الكثير من الشتائم واللعنات بسبب هذه الصفات اللئيمة.
مضت ساعتان ونحن نتجول في أحياء صنعاء القديمة، تكلمنا كثيراً، ضحكنا كثيراً، الساعة الآن تقريباً تشير إلى العاشرة مساء، استأذن الحاج “عبدالله” بكل هدوء وتركنا، قال إنه يريد أن يذهب إلى منزله، فالنوم يملأ عينيه ويريد أن يستريح، ثم إنه قال لنا في ذلك اليوم مازحاً: لقد صدقتما، فأنا كبير في السن ولم أعد أقوى على المشي.
محمد أبو زيد هو الآخر غادر، افترقنا الثلاثة، وعدت إلى منزلي المتواضع في صنعاء القديمة، والمكون من غرفتين ومطبخ وحجرة متوسطة الحجم، السقف من خشب قديم، حين تهطل الأمطار، يتسلل المطر من بين الجدران والزوايا ويتبلل السقف بماء المطر، ثم لا يجد طريقاً سوى الغرفتين والمطبخ والحجرة.
في منزلي المتواضع كنت أعاني كثيراً من الصرف الصحي، وعدم وجود مجلس خاص بي لاستقبال الضيوف، لقد تشاجرت أكثر من مرة مع زوجتي التي كانت تصر بأن ننتقل إلى مكان آخر داخل العاصمة صنعاء والبحث عن سكن نعيش فيه مثل بقية خلق الله، لكنني كنت أصر على البقاء في صنعاء القديمة، فثمة شيء ما يشدني إليها، يجذبني، فأنا أعشقها، وحين يعشق المرء شيئاً فلا يمكن أن يبارحه.
لم يكن قد مضى وقت طويل على مكوثي في صنعاء القديمة، أو بالأصح بالسكن فيها، لكنني أحببتها من أعماق قلبي! أحببت حاراتها أزقتها، مبانيها المتلاصقة، القمريات
أحببت أسواقها الشعبية، والمدخل الأنيق لباب اليمن، الذي يلج الناس منه من مختلف محافظات اليمن.
وأحببت مساجدها المنتشرة في كل حي.
آه، لقد نسيت.. وأحببت أيضاً “المقشامة” أو “البستان”، الذي تزرع فيه الخضار!
لا أدري لماذا تذكرت أخي عبد اللطيف في هذه اللحظات؟
عبد اللطيف، الشاب الرائع، الممتلئ بالحماس والنشاط، قوي القامة، قوي العظام والعضلات.
هو في الخامسة والثلاثين من عمره، وهو أصغر مني بسنتين، كان يتردد علي باستمرار، محاولاً اقناعي بالعودة إلى منزل أبي الكبير الواقع في حي القادسية بصنعاء، غير أني كنت أرفض ذلك العرض، ولقد مل المسكين مني ولم يعد يعرض علي الأمر مجدداً.
يمتلك والدي “علي” عدة منازل في العاصمة صنعاء، ويعمل تاجراً في المولدات الكهربائية، ولقد كان حريصاً بأن أكون سنداً له في تلك التجارة، لكن كل جميع محاولاته باءت بالفشل.
لا زلت أتذكر تلك الليلة المشؤومة، حين قرر والدي طردي من منزله، لقد اجتمع بي وبأخي عبد اللطيف وأختي وفيه، وبدأ يصرخ بصوت عال في وجهي: أنت يا عبد الرحيم لا تنفع لشيء، لا تريد أن تكون بجانبي في التجارة، ولا تريد أن تساند أخيك عبد اللطيف، ولا تريد أن تعامل أختك وفيه معاملة حسنة.
لقد تعبت معك يا عبد الرحيم، لذا عليك أن تخرج من منزلي وتشق طريقك مثل خلق الله.
كانت أختي وفية أكثر من دافع عني في تلك الليلة، لقد توسلت إلى أبي كثيراً بألا يطردني من المنزل، لكن أبي إذا ما قرر أمراً فإنه لا يتراجع عنه بسهولة.
لم أكن أستوعب ما يدور من حولي، ولأول وهلة وجدت نفسي مضطراً للمغادرة، لكن إلى أين؟ لا أعرف.
أعطاني أبي مهلة للصباح، فخرجت مع زوجتي وبنتي وفاء -ثمان سنوات- لا ندري إلى أين؟ غير أن صديق والدي راشد تدخل وعمل كل الواجب، ولحسن حظي أنه نقلنا إلى هنا في منزله بمدينة صنعاء القديمة، وقال لي بأن أسكن فيه حتى تهدأ المشاكل والخلافات مع والدي.
لأول مرة شعرت بأن أبي يعاقبني وهو الذي اعتاد على تدليلي منذ صغري، كان يعطيني كل شيء، وإذا ما طلبت شيئاً ورفض أبي، فأنني أتحايل على والدتي-المرحومة- فتسارع هي الأخرى بإعطائي ما أطلب دون معرفة أبي.
كان يصل إلى مسامعي بين الفينة والأخرى، كلام كثير عني من قبل أفراد الأسرة، يقولون دائماً: إن تدليلي الزائد على اللزوم صنع مني شخصاً لا قيمة له، ربما كانوا محقين، وربما لا، ووالدي المسكين كان يعتصره الألم حين يسمع مثل هذه الأنباء.
كنت أيضاً أتساءل: لماذا يطردني والدي من المنزل؟ ما الذنب الذي اقترفته؟ ما الخطيئة؟ فأنا معتاد منذ زمن كبير أن يقف أبي إلى جانبي، وأن يساندني في كل شيء، ولقد علمت فيما بعد أن والدي استمع لنصيحة أحد أصدقائه، بأن يتركني أواجه متاعب الحياة لنفسي، حتى أشعر بالمسؤولية كما يشعر الرجال!
الخلود لروحك يا أمي، لو كنت باقية على قيد الحياة، لما حدث كل هذا المكروه!
كان الفقر يلاحقني باستمرار، لكن زوجتي الحنونة كانت تمتلك كثلة كبيرة من الصبر، لقد تحملت العيش معي في هذا السكن المتواضع، والأكل والشرب المتواضع، وأكثر من ذلك كانت تتحمل نزقي وغضبي وانفعالاتي الشريرة واللا مبررة أحياناً.
وجبة الغداء التي كانت تتناولها في أوقات كثيرة هي كسرة خبز يابسة، وقليل من الماء، وكم تمنت المسكينة أن تمتلك ثمن كوب شاي حار يدخل الدفء إلى جسدها.
كانت أمنيتها أن تتناول ولو يوماً واحداً وجبة غداء تملأ معدتها الفارغة من الدجاج المشوي أو اللحم مع الرز، أو أي وجبة تشبع نهمها.
أشعر أحياناً أنني لست من البشر، فأنا لا أبالي بكل هذا، ووجبة الغداء أتدبرها بشكل يومي، في المطاعم أو في منزل صديقي محمد أبو زيد، ونادراً ما كنت أتناول وجبة الغداء في منزلي المتواضع، ولم أكن أبالي هل ستأكل زوجتي وطفلتي وفاء أم لا، ولا كيف سيتدبرون أمرهم؟
كانت زوجتي تنتظرني بكل لهفة وشوق، هي تحبني كثيراً، لكنها تتذمر من انفعالاتي وغضبي المتواصلين.
في تلك الليلة التي تجولت فيها مع رفيقي دربي الحاج عبد الله ومحمد أبو زيد كنت سعيداً على غير عادتي، وبعد فراقهما عدت إلى منزلي وسلمت على زوجتي بكل هدوء، وقبلتها بحنان، وتحدثت معها ببشاشة لم تألفها من قبل.
ملامح الاستغراب كانت بادية على محياها، كأنها تريد أن تقول : ما الذي غيرك يا حبيبي؟ ما سر سعادتك؟ لماذا كل هذه النشوة؟، لكنها فضلت الصمت وعدم توجيه الأسئلة إلي، حتى لا أنهرها وأعود إلى عصبيتي المقيتة.
استلقيت على ظهري وأخبرت زوجتي بأنني مرهق وأريد أن أنام، وما هي سوى لحظات حتى دخلت في سبات عميق، ولذة نوم لم أشعر بها طيلة حياتي!
-3-
نهضت من نومي فزعاً، كنت غارقاً في أحلامٍ جميلة، كل شيء فيها جميل، لكن ثمة شيء ما أفزعني، أخافني، هز وجداني!
ما هذه الأصوات يا إلهي؟ إنها أصوات رصاص كثيف، وانفجارات لا أستطيع التكهن أين هي بالضبط؟
زوجتي أيضاً كانت ترتعد من شدة الخوف، وبنتي الصغيرة “وفاء” استيقظت وبدأت في الصراخ والبكاء، لهول ما سمعنا من أصوات قوارح.
سألتني زوجتي بصوت فزع: ما الذي يحدث؟
أهي اشتباكات؟ أهي حرب داخلية؟ ما هي بالضبط؟
كنت مثلها لا أعي شيئاً ولا أدري ما الذي يحدث بالضبط؟
الساعة الآن الثانية بعد منتصف الليل، الرعب والخوف لا يزالان يسيطران على مدينة صنعاء وسكانها، فلم يمض سوى أسبوعين على اغتيال الصحفي عبد الكريم الخيواني، وأسبوع على تفجيرات في مسجدي بدر والحشوش، هل دخلنا في المحظور؟ هل بدأت الكارثة؟ البلد على وقع فوضى سياسية، الفراغ في السلطة يجعل الجميع يضعون أيديهم على قلوبهم، لا أحد يدري إلى أين تمضي البلد؟ هل إلى الكارثة أم إلى الخير؟
هواجس كثيرة كانت تسيطر على مخيلتي، فيما المسكينة زوجتي كانت على أحر من الجمر لمعرفة مصدر هذه الانفجارات والرصاص الكثيف.. صرخت زوجتي “علياء” في وجهي غاضبة: لم لا تجب على سؤالي؟
-ماذا أعمل؟ الكهرباء منقطعة، الظلام دامس، كلاب تنبح بالجوار وبصوت مرتفع، والرصاص لم يتوقف بعد.
آه يا ويحي، لماذا لا أهتدي إلى تلفوني، لا يزال فيه بقية شحن كهرباء، وفيه أيضا باقة نت، سأتصفح الآن يا علياء وسنعرف الخبر اليقين.
يا الله، ما هذه الكارثة؟ ارتعش جمسي، وبدأ الخوف يتسلل إلى كافة مفاصلي، أعترف أنني في تلك اللحظة أفزعت زوجتي أيضاً والتي كانت في لهفة لمعرفة ما يحدث!
إنها الحرب.
السعودية تقصفنا بطائراتها.
يقولون: إنها قصفت المطار، وتقصف المعسكرات، وهذه الأصوات ليست أصوات رصاص.. إنها مضادات الطيران تتصدى للطائرات!
يا إلهي، حرب، طيران.
هيا بنا نهرب، يجب أن نجمع أمتعتنا ونرحل، يجب أن نغادر منزلنا ونذهب إلى مكان آمن، يجب يجب يجب.
لا. لا تخافي يا زوجتي، يجب أن نبقى للصباح ولكل حادث حديث.
هدأت الانفجارات، وسكت الرصاص، وواصلت النوم كما واصلت زوجتي، صحيح أن عيني كانتا مغمضتين، لكن قلبي لم ينم، ولم يعرف النوم في تلك الليلة وكذلك الحال بزوجتي.
-4-
السماء باقية على صفائها الجميل، مضى عليها أكثر من شهر ولم تمطر، الصباح اليوم كغير عادته، الناس في ذهول مما يحدث.
لم يأت الصباح إلا ومحمد أبو زيد أمام منزلي، كان يقول لي بفزع : الحرب الحرب يا صديقي، آل سعود يقصفوننا.. يقولون: “إنهم قصفوا منزلاً في “بني حوات”.
بني حوات..
إنها منطقة بالقرب من مطار صنعاء في الجزء الشمالي من العاصمة، قلت لمحمد أبو زيد وجسمي كأنه كتلة نار من شدة الإرهاق: ربنا يستر.
غادر صديقي محمد وهو يمشي كالمجنون، كأنه غير مصدق ما يحدثـ، أما أنا فأقفلت باب منزلي الحديدي، وصعدت “الدرج” ودخلت إلى غرفتي لأواصل النوم، فأنا مرهق من شدة السهر. أخبرت زوجتي قبل ان تتحدث وبعصبيتي المعتاده: دعيني أنام ولكل حادث حديث.
وعلى الرغم أنني استلقيت على ظهري محاولاً النوم إلا أنني لم أستطع، وفضلت حينها أن أخرج إلى الشارع لأستقصي أحوال الناس وردة فعلهم بعد الأنباء التي تتحدث عن دخولنا في حرب مباشرة مع السعودية.
أهي الحرب؟
يا الله، نحن لم نعتد عليها منذ سنين، صحيح أننا نسمع أصوات الرصاص والانفجارات من حين إلى آخر، لكننا لم نسمع أصوات الصواريخ وأصوات المضادات ولم نعتد على مشهد كهذا.. إنه خوف وهلع وقلق عجيب.
خرج الناس إلى الشارع كعادتهم، الأسواق ممتلئة بالمواطنين، إنه يوم الجمعة.
الجزار في ملحمته، ومحلات الدجاج مفتوحة كالعادة، وبائع الخضروات في محله، والسوبر ماركت كذلك مفتوحة، الحركة في الشارع طبيعية كالعادة، لم نر أحداً نازحاً.، ما هؤلاء الناس؟ ألم يسمعوا بالحرب؟ ألم يسمعوا بالقصف؟ الجميع يتحدث عن تلك الليلة.
في الشارع أيضاً كان الناس يتحدثون بهلع عن استشهاد أسرة بأكملها في منطقة بني حوات بالقرب من المطار، سقط عليها صاروخ من السماء وهم نائمون، اللعنات توجه صوب الممكلة، الكل قرر البقاء في منزله وليكن ما يكن.
إذاً.. لم الهرب؟ لا لن أفكر بالهروب بعد اليوم.. إذا نزحت حارتنا فسوف ننزح، وإن هرب الناس فسوف نهرب.. هكذا اتفقت مع زوجتي.
في ذلك اليوم تعطرت وتزينت كعادتي ولبست أحلى الملابس وأجملها، وتوجهت إلى المسجد خارج صنعاء القديمة، لا أحب الاستقرار في مسجد واحد أثناء صلاة الجمعة، كل أسبوع أقصد مسجداً، واليوم دخلت مسجد المهاجرين في حي القادسية، وهي الحي الذي كنت أعشقه منذ طفولتي، لا أدري لماذا تذكرت هذا المسجد؟ ربما هو الشوق والحنين لأخي عبد اللطيف والاطمئنان على سلامته.
كنت أظن أن الخطيب سيتحدث عن هذا العدوان، وعن الحال الذي وصلنا إليه، لكنه فضل الابتعاد وعدم التطرق إلى هذا الموضوع.. كان يصرخ في وجوهنا بغضب وحنق شديدين: لماذا لا نصلي مع الجماعة؟ ولماذا لا نصلي الفجر في المسجد؟ كلام كله عن الصلاة، غير أني طيلة الخطبة والصلاة كنت شارداً، كل تفكيري هو في الوضع الذي وصلنا إليه: هل السعودية بالفعل جادة في عدوانها على اليمن؟ ما الأسباب التي دفعتها لذلك؟ وأسئلة كثيرة كادت أن تقتلني من الهم؟
لم أبال بموضوع الخطبة ولا بصراخ الخطيب، وصليت كما يصلي الناس، وخرجت من المسجد مع تفكيري الكبير وهمي المتأجج.
التذمر كان بادياً على البعض من خطيب الجمعة، لكنني سمعت وشوشة من آخرين عقب الصلاة، والفرحة بادية على محياهم، فالقصف كما يقولون: “جاء لإنقاذهم من خطر المجوس”!
مضيت لحالي، وكدت أن أدخل مع أولئك في شجار لكنني فضلت المغادرة.
قلت لنفسي: من أين يأتي هؤلاء بكل هذه الأفكار؟ ثم أين المجوسيين في اليمن؟ لست معنياً الآن بكل هذه الهواجس.
أين أنت يا عبد اللطيف؟
لقد اشتقت إليك، اشتقت لابتسامتك، لهدوئك، لطبعك النبيل، ثم للهفتك علي ونبل أخلاقك، لكن ما يحز في نفسي أن عبد اللطيف وخلال تلك الفترة، لم يفكر بالتواصل بي، والاطمئنان على سلامتي.. ألا يدرك عبد اللطيف أننا في عدوان، وأن الصواريخ لا ترحم أحداً، وقد يهبط صاروخ بشكل عشوائي على أي بيت، فيحول الأجساد إلى أشلاء ممزقة.
لم تنجب البشرية مثلك ياعبد اللطيف! إنني أحبه كثيراً، فهو شقيقي الصغير، وهو سندي عند الحاجة.
كنت أشعر دائماً أن والدي يعتمد بشكل كبير على عبد اللطيف في التجارة، لكنني لم أكن أحسده، بل كنت أفتخر حين يتحدث الجميع عن نجاحه في التجارة، ونبل أخلاقه مع الناس.
عقب صلاة الجمعة أيضاً، بحثت بين جموع المصلين عن شقيقي عبد اللطيف حتى وجدته ووجدت كذلك أبي، فسلمت عليهما، واطمأننت عليهما.
قال لي أبي في ذلك اليوم: الآن البلاد دخلت في حرب يا عبد الرحيم، لم يعد هناك مجال للتيه والجنون، بإمكانك العودة إلى منزل أبيك، ومساندتنا في هذه الظروف العصيبة.
طأطأت رأسي وفضلت الصمت.
في ذلك اليوم أيضاً، أصر أبي وعبد اللطيف على أن أذهب إلى منزلهما لتناول وجبة الغداء، غير أني اعتذرت لهما بشدة، فأنا لا أريد ترك زوجتي وطفلتي في منزلي لحالهما وخاصة في ظل هذا الوضع المأزوم، وأقنعت عبد اللطيف بذلك.
ودعت أبي وعبد اللطيف، محاولاً العودة إلى منزلي، وما إن مشيت مسافة لا بأس بها حتى لحق بي شقيقي عبد اللطيف، محاولاً إعطائي بعض النقود، لأدبر بها حالي، غير أنني رفضت ذلك وبشدة، وسرعان ما استسلمت حين أقسم عبد اللطيف قائلاً “حرام وطلاق” إنك ستأخذها يا أخي.
كان المبلغ المالي خمسين ألف ريال، وهكذا هو عبد اللطيف، لا يتركني أبداً عند الشدائد.
توجهت مباشرة إلى السوق، واشتريت من المطعم لحماً، ووجبة غداء متكاملة، وعدت مسرعاً لأفرح زوجتي وطفلتي ونأكل سوياً.
يا الله، لم نتناول معاً وجبة الغداء منذ أشهر ، هكذا حدثتني علياء، غير أني لم أجبها وفضلت الصمت كأني زهرة خرساء، وفي مخيلتي هواجس كثيرة ترتبط بالحرب، وبالتأقلم والعيش مع هذا العدوان الخبيث.
في عصر ذلك اليوم 27 مارس 2015 كان المواطنون يتوافدون إلى ساحة باب اليمن، فاللجنة الثورية العليا قد دعت الجميع للخروج في مسيرة للتنديد بالعدوان.
كنت وزوجتي، نشاهد التلفاز ونتنقل من محطة تلفزيونية إلى أخرى، إنها العربية، لقد أفرزت مساحة كبيرة من تغطيتها لما يحدث في بلادنا.
أطل عبر هذه الشاشة القبيحة رجل أسمر يرتدي الملابس العسكرية، إنه مستشار وزير الدفاع السعودي العميد أحمد عسيري.
استمعنا إلى مؤتمره الصحفي، ثقة بالنفس، غرور، شطحات كبيرة، دمرنا معظم مخازن أسلحتهم، سنواصل القصف، سنقضي عليهم، وتهديدات كثيرة أطلقها هذا الرجل، ثم أن السعودية لم تدخل هذه المعركة بمفردها.. الرجل يتحدث عن أكثر من عشر دول تشارك في هذا الهجوم. إنه الجنون.. إنها الكارثة.
نظرت علياء إلي بحنق ثم قالت: لماذا لا نهرب؟ إنهم يريدون تدمير صنعاء، أتريد أن نجلس هنا حتى نموت؟
– وإلى أين نذهب؟
– إلى القرية؟
– سأحضر المظاهرة ثم يكون لنا حديث بعد ذلك؟
– المظاهرة: أأنت مجنون؟ سيقصفونكم.، اسألك بكل ما هو مقدس ألا تذهب، أرجوك يا حبيبي، لا تغامر بنفسك، إنني خائفة عليك.
هدأت من روعها قليلاً، ثم أقنعتها بكلامي المعسول أن لا مناص من الذهاب، فلم يعد أمامها سوى الدعاء لي وتوديعي.
هنا في ساحة باب اليمن، المشهد مختلف تماماً عن كل المظاهرات، الكثيرون حضروا بأسلحتهم، احتراز أمني غير مسبوق، الحماس يكسو الساحة، و سيارات وضعت عليها مكبرات صوت وأهازيج حماسية (ما نبالي ما نبالي ما نبالي)، الساحة مكتظة بالناس.. إنه يوم استثنائي في تاريخ صنعاء.
المتظاهرون توشحوا بالأعلام الوطنية، إنه الوطن حب لا نظير له لدى هؤلاء، وهناك صبي قد اعتلى السور الطيني لمدينة صنعاء القديمة المقابل لوزارة الدفاع، وربط على رأسه بعصابة خضراء، ورفع لافتة كبيرة مكتوب عليها لن نهزم.
وهناك في الجانب الآخر رقصات شعبية على الأناشيد الحماسية، وصخب وضجيج وهتافات وتكبيرات متواصلة.
الله أكبر
الموت لأمريكا
الموت لإسرائيل
اللعنة على اليهود
النصر للإسلام
كان المتظاهرون يهتفون بهذا الشعار بين الفينة والأخرى، بل بين كل كلمة وأخرى.
كنت أنظر إلى سواعد المتظاهرين الذين يصرخون بهذا الشعار، لم تكن متراخية أبداً، إنه الغضب يتفجر بين هؤلاء وكأنه بركان يريد أن ينفجر على مدينة ما.
كان بجواري صديقي العزيز محمد أبو زيد، في الحقيقة هو الذي أقنعني بالحضور والمشاركة في هذه المظاهرة، أما الحاج عبد الله فكان يومها مريضاً، ولم يتمكن من المشاركة.
في تلك اللحظة كنت أشعر بخوف كبير، رهبة في المكان، وأكثر ما كان يدور في مخيلتي أن السعودية قد تقدم على ارتكاب حماقة وتقصف المتظاهرين، كنت أحدق باستمرار إلى السماء فلا أرى طائرات، كنت أسمع صوتها بوضوح ، انتبهت لصراخ محمد أبو زيد وهو يقول لي: ما بك ولم تنظر إلى أعلى؟
قلت له: إلى الطائرات.. أنا لا أراها؟
أخبرني في ذلك اليوم أن طائرات F15 وكذا F16 لا أحد يراها، إنها تقنية حديثة، فخر الصناعات الأمريكية، وهي تقصف من علو مرتفع وكبير.
إنني خائف..
لأول مرة أرى الموت أمام عيني..
هواجس كثيرة كانت تملأ مخيلتي بأنهم سيقصفون المتظاهرين، غير أن ذلك الرجل الذي اعتلى المنصة وبدأ في خطبته الحماسية أزال غشاوة هذا الخوف من قلبي.
كان الجميع يهتفون ضد هذه الحماقة، فيما الخطيب كان بارعاً وهو يتقن اختيار المفردات، فقد ألهب حماس الناس ودعاهم إلى الجهاد والنفير، الكلمات أيضاً في ذلك اليوم كانت جميعها حماسية.
إن هذا الشعب الذي ينضح بالأناشيد والبطولة، هذا الشعب قد أخذ بكلمة الحرية، كلمة الشجاعة، عدم الاستسلام، انه الشعب نفسه في أسمى درجات فضائله.
الأبطال يولدون من الشعب، وهؤلاء الذين حضروا إلى هذه الساحة سيكون لهم بالتأكيد شأن عظيم، ومن يصرخ اليوم في وجه الظلم والطغيان، لن يتردد أبداً في مواجهته بأي شكل من الأشكال.
كنت أرى الحماس يتدفق في جميع مفاصل صديقي محمد أبو زيد، كان يصرخ بأعلى صوته: الجهاد، الجهاد، وهو يرفع سلاحه “الآلى” إلى أعلى، ثم إلى أسفل!
كانت الدهشة تتملكني، وأنا أرى الكثير من المتظاهرين يحملون أسلحتهم، وقلت في نفسي: إذن، ما جدوى تلك التفتيشات المكثفة على مداخل الساحة؟
ماذا لو أطلق أحدهم الرصاص؟ لعمري أن هذا لا يحدث إلا في هذا البلد! متظاهرون يحملون الأسلحة، ثم يغادرون دون أن يحدث أي شيء، لا فوضى، ولا إطلاق رصاص على أحد، إن هذا لأمر عجيب!
لم أتحمل طويلاً، فبادرت إلى صديقي محمد أبو زيد وسألته عن سبب حمل المتظاهرين لكل هذه الأسلحة؟
نظر إلي وهزني بكل قوة، ثم قال بكل حماس: نحن نحمل الأسلحة لنوصل رسالة للعدو بأن
هذه الحرب ليست نزهة، وأن اليمن مقبرة للغزاة، مقبرة للغزاة.
* نقلا عن :الثورة نت