إيهاب شوقي*
ربما يكون تزامن الجريمة الهمجية بحرق المصحف الشريف بالسويد، وإطلاق النار المتعمد من الشرطة الفرنسية على الشاب الجزائري المسلم نائل، وما تبع الحادثين من احتجاجات وغضب، هو أمر لا يخضع للمصادفات، وعلى الأرجح لو كان التزامن مصادفة فإن السياق ليس مصادفة، أمر ممنهج ومقصود للدفع بالصراع الدولي لمناح أخرى تشوبها العوامل الحضارية والثقافية والدينية.
وقبل الخوض في الأطروحات التي حددها الفلاسفة وتعتبر بمثابة أوراق عمل للإدارات الأمريكية والغربية في تصور النظام العالمي وتحقيق الهيمنة الأمريكية والغربية عموما، فهناك بعض الملاحظات التي من الواجب رصدها تتعلق بما حدث في السويد:
1ــ من حيث الزمان والمكان وطريقة التنفيذ، فإن الجريمة مقصود منها أكبر قدر من الاستفزاز لمشاعر المسلمين، فقد تزامن إحراق المصحف مع بدء عيد الأضحى وهو ما أثار الغضب المضاعف في عدة بلدان مسلمة، وقد حصل الجاني والمجرم “سلوان موميكا” على تصريح رسمي من الحكومة السويدية للقيام بعملية الإحراق، وقام بالاستفزاز الشديد عندما داس على المصحف وأضرم النيران فى صفحاته أمام أكبر مسجد في العاصمة السويدية.
2ــ رغم التنديد الواسع، أعلن موميكا أنه سيحرق نسخة أخرى من القرآن في غضون عشرة أيام. وقال في حديث لصحيفة “إكسبرسن” السويدية ” في غضون عشرة أيام، سأحرق العلم العراقى ومصحفا أمام السفارة العراقية في ستوكهولم”، وهو ما يعني الإصرار على التصعيد والدفع بالأمور للفوضى.
3ــ رئيس الوزراء السويدي “أولف كريسترسون” والذي انتخبه البرلمان السويدي في 17 أكتوبر الماضي، هو الرئيس الذي نقل حزبه المعتدل الى اليمين، وشهدت جلسة التصويت لانتخابه دعماً غير مسبوق من “ديمقراطيي السويد” (اليمين السويدي المتطرف) وهو ما اعتبره المراقبون انتقالا لحقبة سياسية جديدة لدولة الشمال.
4ــ تخطط الحكومة السويدية المتحالفة مع اليمين المتطرف، لإجراء تخفيضات جذرية في استقبال اللاجئين بالسويد وخفض حصة البلاد من 6400 لاجئ العام الماضي إلى 900 سنوياً خلال فترة ولاية رئيس الوزراء الجديد البالغة أربع سنوات، إضافة إلى إمكان “ترحيل الأجانب بسبب سوء السلوك”.
5ــ العدو الاسرائيلي ليس بعيدا عن القضية، حيث الحزب الديمقراطي السويدي الذي دعم رئيس الوزراء الحالي بشكل لافت، هو حزب سويدي سياسي يصف نفسه بأنه حركة قومية، وهو حزب معادي للأجانب يستمد بعض افكاره من النازيين أو ما يسمون اليوم بالنازيون الجدد Neo-Nazism، ويسعى حزب ديمقراطيي السويد SD إلى كسب ود “إسرائيل”، بعدما منعت الأخيرة ومنذ سنوات تواصل دبلوماسييها مع الحزب، بسبب جذوره النازية وخطاب معاداة السامية الذي تبناه مؤسسوه، ولكن الحزب اليميني يريد اليوم تغيير النظرة الإسرائيلية إليه، ويريد أن يكون حليف “إسرائيل” الأقرب في السويد.
وهذا كان واضحاً في مقابلة لرئيس لجنة العدل في البرلمان السويدي والقيادي في الحزب السويدي ريكارد يومسهوف، ورئيس مجموعة نواب SD في البرلمان الأوروبي تشارلي وايميرس مع صحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية.
وأتت المقابلة على هامش زيارة أحيطت بالسرية والغموض، قام بها القياديان البارزان إلى “إسرائيل”، بدعوة من جهات يمينية، حيث التقى القياديان خلال زيارتهما نواباً من حزب الليكود والقائمة الوطنية اليمينيان، وقد بات الحزب من أكبر مؤيدي “إسرائيل” أوروبياً، ولفت وايميرس إلى دراسة أعدتها مجموعة مؤيدة لإسرائيل، أظهرت أن حزب SD شكل الداعم الأكبر للتشريعات المؤيدة لإسرائيل في البرلمان الأوروبي.
وبخصوص الأطروحات الغربية الفلسفية لتشكيل النظام العالمي، والتي يعمل بموجبها القادة الأمريكيون والغربيون عموما، قد تمحورت حول ثلاثة أطروحات تبادلت الصدارة باختلاف السياق السياسي الدولي، فحازت أطروحة فرنسيس فوكوياما الشهرة الأكبر بعد تفكُّك الاتحاد السوفياتي وما بدا أنه هيمنة الليبرالية الرأسمالية التي لا رجعة فيها، ثم حلَّت محلَّها أطروحة صمويل هَنتيغتون بعد أحداث 11 سبتمبر وما بدا أنه صعود صراع الحضارات والثقافات إلى السطح، وأخيرا برزت أطروحة جون ميرشايمر مع اندلاع الحرب الروسية في أوكرانيا وصعود الصين باعتبارها قوة عالمية مناوئة للوضع القائم والهيمنة الأميركية.
وباختصار شديد، فإن أطروحة فوكوياما “نهاية التاريخ والإنسان الأخير”، تتعلق بأن الديمقراطيَّة الليبراليَّة بقِيَمها عن الحرية، الفردية، المساواة، السيادة الشعبية، ومبادئ الليبرالية الاقتصادية، تُشَكِّلُ مرحلة نهاية التطور الأيديولوجي للإنسان وبالتالي عولمة الديمقراطية الليبرالية كصيغةٍ نهائيةٍ للحكومة البشرية.
وقد قام بتفنيدها والرد عليها هنتغنتون بأطروحته عن “صراع الحضارات”، حيث توسع هنتغتون وألف كتاباً بعنوان “صراع الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي” جادل فيه بأنه وخلال الحرب الباردة، كان النزاع أيديولوجيا بين الرأسمالية والشيوعية ولكن النزاع القادم سيتخذ شكلاً مختلفاً ويكون بين حضارات محتملة وهي: الحضارة الغربية، الحضارة اللاتينية، الحضارة اليابانية، الحضارة الصينية، الحضارة الهندية، الحضارة الإسلامية (كل الدول ذات الأغلبية المسلمة)، الحضارة الأرثوذكسية، الحضارة الأفريقية، والحضارة البوذية.
بينما تتجه الأنظار الان إلى الباحث “ميرشايمر” الذي ذهب إلى أن الحياة الدولية ستستمر في صراعها من أجل القوة، فهو يرى أن المنافسة بين القوى العظمى قدر البشر المأساوي، وأن العالم لا يختلف كثيرا الآن عما كان عليه من قبل إذن، وفكرة ميرشايمر الجوهرية هي أنه إذا كان للسلام أن يستمر، فيجب أن يُبنى على توازن قوى مستقر، وليس على انتشار الأفكار المثالية والأخلاقية فحسب.
ووفقا لميرشايمر، فإن الأنظمة الدولية متعددة الأقطاب يمكن أن تكون أكثر استقرارا من نظام أحادي القطب إذا أُدير تنافر المصالح بين أقطابها بما يحفظ مصالحها.
ومن سياق الأحداث يبدو أن أمريكا لا تريد الاعتراف بأطروحة ميرشماير رغم ثبوت واقعيتها، ولكنها تحاول اتباع منطق هنتغتون لأنه الذي يمكنها من الهيمنة، لأن هنتجنتون يحمل أفكارا يمكن لأمريكا استغلالها لفض التكتلات الحديثة ضدها، وزرع التناقضات بين تحالفات حديثة مثل التحالف الروسي الإيراني أو الروسي الصيني أو التقارب الشرقي، بالتركيز على تناقضات بين البوذية والارثوذكسية وبين الإسلام والمسيحية، بل وبين الكاثوليكية والارثوذكسية للتفريق بين أوروبا الشرقية وتحديدا روسيا وأوروبا، وهو سلوك امريكي معهود، ولعل القاء الضوء على بعض افكار هنتجنتون يوضح ذلك:
يقول هنتجنتون أن المرء يمكن أن يحمل جنسيتين فرنسية وجزائرية مثلاً، ولكنه لا يمكن أن يكون مسلماً وكاثوليكيا في آن واحد.
كما يفسر بعض الصراعات بشكل لافت، حيث فسر الحرب على العراق وقال بأنها ليست حرباً على العراق بل “حرب ضد كل العرب والمسلمين”. وضرب مثالاً آخر بالنزاع بين أرمينيا وأذربيجان، فتركيا وجدت نفسها مضطرة لدعم الآذريين بعد أن ألزمت نفسها رسميا بالحياد، وفي هذه الأزمة، الاتحاد السوفياتي الشيوعي “الملحد”، كان مؤيداً لأذربيجان سابقاً ولكن فور انهياره، وجد الروس أنفسهم مضطرين لمساعدة الأرمن الأرثوذكس مثلهم.
وكذلك النزاع في يوغوسلافيا السابقة، حيث أظهر الغرب دعمه للبوسنة لما تعرضوا له من مجازر تطهيرية على يد الصرب دون أي إجراءات عملية تمنع وقوع المجازر ولكن الدول الأوروبية لم تظهر نفس الموقف اتجاه مجازر الكروات بحق الأقلية المسلمة. وبذلت ألمانيا جهوداً استثنائية لإقناع الدول الأوروبية بالاعتراف بكرواتيا وسلوفينيا، وهما دولتنان بأغلبية كاثوليكية ولكنها اتخذت موفقا وسطاً اتجاه الصرب الأرثوذكس، ووجدت روسيا نفسها أمام ضغط شعبي متصاعد لعدم تدخلها لدعم الصرب، وبحلول عام 1993، كان مئات من المقاتلين الروس يقاتلون في صربيا.
كما حدد هنتغتون سيناريوهات للصراع بين الغرب ومن سماهم بالــ”آخرين”:
ــ أن تحاول تلك الدول عزل نفسها وحماية مجتمعاتها من “الفساد الغربي” وربما الانعزال عن ساحة السياسة الدولية، ولكن ثمن ذلك باهظ ودول قليلة لديها المقدرة على الشروع في خطة كهذه.
ــ السيناريو الثاني أن تعمل تلك الدولة محالفة الغرب و«تغريب» مجتمعاتها مثل تركيا.
ــ السيناريو الثالث هو أن تتحالف تلك الدول أو الحضارات مع حضارات غير غربية أخرى وتسعى لتشكيل قوة اقتصادية أو عسكرية معها بغرض تحقيق التوازن أمام الدول الغربية.
وهنا يبدو أن هناك دفعا باتجاه صراع حضاري وإعادة احياء لصراع الحضارات لتغيير قواعد انتقال النظام العالمي ومنع انتقاله بشكل سلس قائم على توازنات القوى الجديدة، بل تعطيله وحرف مساره كمحاولة للاحتفاظ بالهيمنة الامريكية والغربية بشكل عام.
* المصدر: موقع العهد الاخباري