يجري اليوم الحديث على ألسنة المفكرين والفلاسفة وعلماء علم الاجتماع حول فكرة نهاية العالم الذي نعرفه، بكل قيمه وثقافاته، وأخلاقه، ونظمه الاجتماعية، وعاداته وتقاليده، وتعدد دياناته وطقوسه التعبدية، هذا العالم الذي نعرف عنه الكثير اليوم سوف ينتهي في غضون عقود زمنية قصيرة، ليحل محله عالم آخر لم يكن معهوداً ولا معروفاً يتعامل مع الماضي كزمن بدائي متخلف وغارق في التخلف.
هذا العالم المتخيل الجديد يميل إلى تعزيز قيمة الذات وحريتها في تحقيق كيان مختلف عن الماضي وبحيث تصبح النظم الاجتماعية الجديدة قادرة على تشكيل نظم سياسية متناغمة لتحقيق النفع المتبادل دون قيود أخلاقية وهي في السياق نفسه قادرة على تشكيل نظم سياسية متعايشة ونفعية.
الاشتغال اليوم قائم على قدمٍ وساق في تفكيك المدخلات الثقافية القديمة من وجهة نظرهم، والمعيقة لحركة التطور، تمهيداً لصناعة زمن ما بعد الحداثة، زمن القرن الواحد والعشرين، حَيثُ أطلقوا الحريات الفردية، وهدموا التطبيقات الاجتماعية، فلا موانع نفسية ولا أخلاقية في إقامة علاقات جنسية بين أفراد الأسرة، وللفرد حرية تحديد نوعه، وحريته في ممارسة احتياجاته البيولوجية حتى مع الحيوانات، وحريته في تحديد جنسه سواءٌ أكان ذكراً أَو أنثى وله الحق في العيش بما يشعر به، فالفرد الذي يشعر أنه كلب أَو قط أَو أي نوع من أنواع الحيوانات فمن حقه أن يعيش كما يريد، والقانون يحفظ له حريته في الطريقة التي يريدها أَو يرغب في العيش بها، ومن يقول له: إنك إنسان يعتبر متنمراً، هذا يحدث اليوم في المجتمعات الغربية كلها كثقافة اجتماعية تكفل السلطة الحرية في القيام بها أَو ممارستها كسلوك اجتماعي ومع وجود الصراع بين الشرق والغرب أي بين روسيا وبين الغرب قاطبة أصبح توجّـهاً سياسيًّا معلناً، والغرض منه تطويع المجتمعات لفكرة السلام والنفعية وتحويل البشر كقطيع حيواني نفعي، من خلاله يتم تشكيل نظم سياسية خاضعة وذليلة.
روسيا شعرت بخطورة الحرب العسكرية والحرب الثقافية فخاضت معركتها العسكرية مع الغرب في أكثر من مكان في العالم، وفي أوكرانيا، وفي السياق ذاته أعلنت استراتيجية الأمن القومي الثقافي، وبحيث تحمي مجتمعها من غول الانهيار القيمي والأخلاقي والتفسخ والانهيارات النفسية والثقافية، والعرب في غفلة ساهون بل كادوا يندمجون في إطار هذا المشروع، فحركات التحول الجنسي تلقى رواجاً ودعماً مادياً غير مسبوق يشجع الشباب على التفكير به، فمشاهير السوشيل ميديا يصل دخل بعضهم ممن يروجون لفكرة انهيار القيم والتطبيقات الاجتماعية والثقافية إلى مبالغ كبيرة وغير متوقعة تصل إلى مئة ألف دولار شهرياً عند البعض يتم تغذية حساباتهم البنكية بها شهرياً.
ومن الملاحظ أن الكثير من الذين يروجون لفكرة التفكيك والخروج عن النظم الاجتماعية والعادات والتقاليد هم في الغالب من أبناء الثقافات التي تستهدف؛ فالعراقي الذي أحرق القرآن في السويد يعلن كفره ويحرق المصحف لم يقم بذلك كحرية شخصية بل قام بما قام به كوظيفة هو يتقاضى عليها أجراً من قبل أجهزة استخبارية عالمية قد تكون ظاهرة أَو خفية.
نحن اليوم أمام حالة تبدل وتغير كبرى تحدث في العالم المحيط بنا، هذا العالم يملك أدق التفاصيل ويسيطر عليها ويملك الشركات العالمية، ويملك حرية التحكم في الموجهات الثقافية، وهو يدير شأنه من غرف صغيرة، ويحدث قدراً من التبدل في المسارات في كُـلّ بقعة من بقاع الأرض، وأمام مثل ذلك نحن نحتاج إلى رؤية في الإصلاح الثقافي والأخلاقي، ومثل ذلك سيكون بعيد المنال إن لم نحقّق إصلاحاً سياسيًّا واقتصاديًّا يعيد للفرد وللمجتمع التوازن المطلوب، ما لم يحدث مثل ذلك فَــإنَّ تيار العولمة الجارف سوف يجرفنا تحت أقدام الدجال الأعور حتى يأتي المهدي ليخلص البشر من شرور الدجال وفق معتقد بعض الفرق الإسلامية.
أيُّ مستقبل للنسق العالميّ الراهن؟ وأيُّ نمطٍ من المعرفة ينبغي أن يوجِّه رؤيتنا لمستقبل العالم؟
هذان السؤالان اللذان يتوجب علينا طرحهما على طاولة النقاش الفكري والثقافي والفلسفي، فالفكرة الدينية وحدها لا تكفي، طالما ونحن نخاطب أمماً ذات مشارب متعددة ولغات متعددة، وثقافات متعددة، ونعيش في مستويات حضارية تجاوزتنا بمراحل، ولذلك نحن مطالبون بتفعيل النظم الثقافية والفنون حتى نجتاز عتبات المرحلة، والوعي بالحاضر يحمي المستقبل الذي يرغب العالم من حولنا -عالم ما بعد الحداثة- على ابتكار نظم اجتماعية جديدة له وهي تبشر به وتعلن نهاية هذا العالم الذي نعرف بكل نظمه وتقاليده ونظمه الأخلاقية.
فماذا نحن صانعون؟!