كلما حاولت الغوص أكثـر في الخدمات الاجتماعية التي يقدمها حزب الله لجمهوره ولكل اللبنانيين أكتشف أن هذه الخدمات ليست جديدة أو طارئة على الحزب، وكل خدمة يقدمها اليوم في ظل المتغيرات الاقتصادية والمعيشية، أساسها يعود للبدايات منذ تأسس حزب الله مطلع الثمانينيات، وعلى الرغم من أن كلفة الاستشفاء في لبنان باهظة جداً، إلا أن تجربة الحزب فرضت معادلة «الصحة حق للجميع» من خلال مجموعة من المؤسسات الصحية والاستشفائية التي تفتح أبوابها لكل فئات المجتمع برسوم رمزية ومجانية، حتى لا يبقى المواطن تحت رحمة المستشفيات الخاصة التي أصبح الاستشفاء فيها للأغنياء فقط.
لمعرفة البدايات لهذه التجربة الناجحة لا بد من الاطلاع على جمعية «الهيئة الصحية الإسلامية» التي أسسها حزب الله عام 1984 في ظروف الحرب الأهلية والاحتلال «الإسرائيلي» لجنوب لبنان، وكانت مهمتها الأولى تقديم الإسعافات الأولية وخدمات الدفاع المدني، قبل أن تتبلور هيكليتها الحالية بعد حصولها على الترخيص الحكومي عام 1988 حاملة صفة «المنفعة العامة».
عملت الهيئة بشكل أساسي على خدمة المستضعفين والمحرومين، وتبنت القضايا الصحية والبيئية الملحة للفئات المستضعفة وسعت لإنهاء الحرمان والتمييز عن الكثير من المناطق تحت عنوان تقديم أفضل الخدمات الصحية والرعائية للمجتمع اللبناني، دون تمييز في طائفة أو دين أو غيرها، هذه الهيئة تقدم كافة الخدمات العلاجية المباشرة، ومجموعة من الخدمات المجانية للفئات الأكثر حاجة في المجتمع، بالإضافة إلى البرامج التثقيفية والإرشادية والتوعوية ومشاريع الصحة الاجتماعية والنفسية والتدخلات الوقائية المباشرة، خصوصاً خلال فترة انتشار فيروس كورونا، وبرنامج اللقاحات والصحة المدرسية.
افتتحت الهيئة مركزها الطبي الأول في منطقة بئر العبد في الضاحية الجنوبية، والثاني في بيروت عام 1985، ثم 4 مراكز في الجنوب و4 في البقاع حتى العام 1992، ومع تحرير الجنوب عام 2000 والاندحار الإسرائيلي، وازدياد الحاجة إلى إعانة الناس وتغير الظروف، عمل حزب الله على إعادة هيكلة الدفاع المدني وزيادة عدد المراكز والطاقم البشري والمعدات.
إبان تحرير الجنوب عام 2000، دخل الدفاع المدني في عصر جديد، وافتتحت مديرية الدفاع المدني عدة مراكز إسعافية في قرى بنت جبيل، الخيام، الطيبة، صور وغيرها من القرى المحرّرة، ليصبح عدد الأفراد في الدفاع المدني ما يقارب 75 متعاقداً و100 متطوّع و75 سيارة إسعاف، بهذه الأرقام البسيطة والإمكانيات المتواضعة خاض الدفاع المدني في الهيئة الصحية الإسلامية حرب العام 2006، وعمل على نقل الشهداء والجرحى الذين استهدفوا خلال عدوان 33 يوماً وإخماد النيران الناجمة عن القصف الصهيوني بالتنسيق مع جمعيات أهليّة أخرى، ومع انتهاء الحرب، ولمدة 3 أشهر تقريباً، واكب الدفاع المدني عمليّة رفع الركام وعودة النازحين، إذ تولى التنسيق مع الدول التي قدمت هبات وأسهمت في إعادة الإعمار، وشارك بتوزيع الحصص الغذائية والمستلزمات الأساسيّة للمتضررين خاصة في القرى الجنوبية حتى بدايات العام 2007.
وعمدت الهيئة الصحية إلى الاستعانة بهيئات دولية لإعادة تدريب أفرادها على أسس وقواعد جديدة بعد تجربة عدوان 2006 حيث تمت زيارة عدة مراكز تدريب لمؤسسات وجمعيات دولية للاطلاع على تجاربها والاستفادة من خبراتها، وبناء على تطور التجربة الناتجة عن هذه الحرب، تقرر إعادة هيكلة الدفاع المدني وزيادة أعداد العاملين والمتطوعين وكذلك التجهيزات الطبية ليصل عدد سيارات الإسعاف إلى حوالي 400 سيارة.
وتنتشر الهيئة الصحية اليوم في 60 مركزاً يقدّم شهرياً ما لا يقل عن 30 ألف معاينة طبية، ويدخل المركز الواحد يومياً 700 مريض بكلفة مالية رمزية جداً، تراعي من خلالها الهيئة الضائقة الاقتصادية المستمرة وتراجع القدرة الشرائية للمواطن اللبناني وشبه انعدام قدرته على تحمل أي تكاليف إضافية، كما أنها كسرت احتكار الأدوية، وأنقذت المواطنين من الارتفاع الجنوني لأسعار الأدوية بتوفيرها لما يقارب 250 ألف عينة دواء، لتغطي أغلب الأمراض وتلك المزمنة على وجه الخصوص مجاناً أو بأسعار رمزية.
لم تقتصر تجربة حزب الله في الجانب الصحي على الدفاع المدني والهيئة الصحية فقط، بل أسهم بشكل مباشر في تأسيس عدد من المستشفيات الضخمة التي أصبحت تستقبل الحالات المرضية حتى من خارج لبنان، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، مستشفى الرسول الأعظم الذي تأسس في العام 1988 وهو تابع لمؤسسة الشهيد، بطابق وحيد و12 سريراً يداوي جرحى الحرب وعائلات شهداء المقاومة، لتنطلق مسيرة تطوير المستشفى وتوسيعه، ففي العام 1990، وعقب انتهاء الحرب أنشئ قسم للجراحة العامة والاستشفاء، وفي العام 1992 أنشئ قسم للأطفال وقد جدد ووسع في ما بعد، وفي العام 1996 أنشئ قسم للطبابة النسائية، وفي العام 2000 شيدت الطبقة الرابعة، ليزيد عدد الأَسرة إلى 160 سريراً، وفي العام 2005 أنشئ قسم لجراحة القلب المفتوح، وفي العام 2009 أنشئ مركز بيروت للقلب، عندما تبرع الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله بمبلغ مليون دولار أمريكي لإنشاء المركز الذي يحوي 90 سريراً، ليصبح اليوم المستشفى مكتفيا ذاتياً ويعتبر وفق تقييمات وزارة الصحة من أهم مستشفيات لبنان.
إلى جانب قيام حزب الله ببناء وتشييد المستشفيات والمراكز الصحية، يتحرك مسؤولوه في القرى والبلدات اللبنانية لتفقد خدمات الرعاية الصحية والاجتماعية، والاطلاع على معاناة الأهالي واحتياجاتهم، وتقديم الدعم لمراكز الرعاية الصحية وتزويدها بالأجهزة والمعدات والمستلزمات الطبية، ويتكرر هذا الأمر باستمرار وفي مناطق خارج نطاق جمهور حزب الله، ولكن الحزب يتجاوز في تقديم خدماته الاعتبارات الحزبية والمذهبية والطائفية.
ولأن الشعب اللبناني عانى كثيراً جراء انعدام الأدوية في ظل الأزمة الاقتصادية الأخيرة، لم يتوان حزب الله في استيراد الأدوية الإيرانية والسورية وتوزيعها للمحتاجين مجاناً، كما افتتح عددا من الصيدليات التي تقدم الأدوية المحتكرة والمعدومة في الأسواق بأسعار رمزية لكل اللبنانيين بدون أي استثناء.
في العدد القادم نسلط الضوء على تجربة حزب الله في الجانب التعليمي.
* نقلا عن : لا ميديا