ترتجف الذاكرة وتهتز حد الوجع المبكي والذي أشبه ما يكون بمخاض عسير ينجب لنا الماضي بما يحمله من مأساة دامية تشبثت بذواتنا المتخمة بمرارة الفقد والخذلان حد الترف، حتى تمنينا لو أن للنسيان سوقاً نبتاع منها جرعات تشفينا من وجع الذكرى، الذي لا يكاد يمر يوم دون أن يباغتنا بمشهد من مشاهد الجريمة التي ارتكبت بحقنا ودون أن نقيم فيها عزاءات! ولكم وددنا أن ننام يوماً على وسائد جافة من الدموع، وأن تمر علينا فرحة دون أن تتعرض للتطهير والتشظي، في دليل على عمق الجرح وبشاعة المعتدي.
موجع هو خذلان الأرض، ونحن الموجوعون من أرضنا التي منحناها كل الحب والولاء، وكان لنا ولآبائنا وأجدادنا نصيب من تعميرها وتخليدها كعاصمة للثقافة فاخرنا بها العالم! لكن، وعلى ذات غفلة، خلع عنها ذلك اللقب الأنيق لتصبح ملتقى سيل لكل غثاءات الفكر الوهابي الذي غزا كل اليمن. إلا أن تعز كانت هي الأكثر تضررا منه، وبعفنه تأثرت عقول الكثير من أبنائها، حتى غدت تعز كموصل العراق، تزدحم مساجدها بذوي اللحى الطويلة بما يحملونه من أدمغة مدججة بسلاح الطائفية البغيض، يوجهونه صوب كل من يخالف أفكارهم، وكنا آل الرميمة أول ضحاياه، بسبب نسبنا الهاشمي والثقافة القرآنية ومنهج آل بيت النبي الكريم، التي تسلحنا بها وتوجهنا لتصحيح الثقافات والعقائد الباطلة.
وما إن شنت دول العدوان حربها على يمننا الحبيب وتوجه معظم أبناء آل الرميمة للجبهات دفاعاً عن الأرض والعرض، أعلنها دواعش تعز معركة تطهير عرقي ضد «المجوس» من آل الرميمة، كما سمّونا، قطعاً لكل أواصر الأخوة، وتمزيقاً لجيرة عمرها مئات السنين.
ولم يكن أمام البقية القليلة من آل الرميمة إلا أن يصدوا هجمتهم الشرسة على قريتهم، التي فجأة أصبحت ساحة حرب تدور عليها معركة شبيهة بطف الحسين، تجلت بوجوه شهدائنا الذين سطروا مآثر كربلاء دفاعاً عن الدين والعرض، أمام عدو استباح كل حُرمة ولم يتورع عن قتل الأطفال والنساء.
لم يفزعوا وهم يرون كثرة عدوهم، إنما كانوا يرونهم كالقشة مقابل ما يحملونه من إيمان بعدالة قضيتهم التي تستحق التضحيات. ولأكثر من شهر ونصف وهم صامدون لم يضعفهم الحصار الذي أطبق عليهم، ولم توهن عزائمهم مشاهد البيوت المحروقة بعد أن نُهبت، ولا صوت تكبيرات داعش التي تتردد في الأجواء. ارتقى الكثير منهم شهداء، دُفنوا دون أن تقام لهم جنائز تليق بمقام تضحياتهم!
وأمام هذا الصبر والثبات تيقن الأعداء أنهم لا شك منهزمون أمام أولئك الثابتين كالجبال، فلجؤوا إلى المكر والخديعة بالمناداة إلى صلح يحقن الدماء ويعيد روح الأخوة والعشرة التي هانت عليهم ذات يوم. ولم يكن أمام آل الرميمة إلا القبول بذلك، رحمة بقلوب أثكلت وأطفال يتموا وجرحى أثخنتهم الجراح ومنع عنهم الدواء.
إلا أنهم وفي اليوم الذي حدد للصلح (16 آب/ أغسطس 2015) لم يجدوا أنفسهم إلا داخل ساحة إعدام، تخترق صدورهم رصاصات الغدر ونكث العهد، ليرتقوا شهداء مرمية جثثهم على قوارع الطرق، وأخرى مجهولة الأثر، بعد السحل والتمثيل بها، وآخرين مختطفين مجهولي المصير.
فاستكلمت النساء مسيرة الخلود بلمِّ الجثث التي استطاعت أيديهن الوصول إليها لمواراتها الثرى، تحت وابلات الرصاص وويلات الألسن ونظرات الشماتة والحقد، مواسيات أنفسهن بمصاب الحوراء في كربلاء، مرددات قولها: «والله ما رأيت إلا جميلا» و»خذ يا رب حتى ترضى»، في مشهد تئن له جبال الأرض وتبكيه ملائكة السماء، ليغادرن بعدها إلى صنعاء مودعات أرضاً ضمت جثامين الأهل والأحباب، ودُفنت فيها كل القيم الدينية والإنسانية، ونكبت أكثر من نكبتهن.
وإلى اليوم لا تزال قضيتنا حية في قلوبنا، ولا نزال نقدم الشهداء في سبيل قضيتنا الأم ومظلوميتنا التي نحيي ذكراها في كل يوم وعام، ومع كل ذكرى نتوجه بالمطالبة بكشف مصير المختطفين من آل الرميمة والمجهول مصيرهم حتى اللحظة.
* نقلا عن : لا ميديا