هل قد سمع أحد او قرأ عن دولة في التاريخ اُسقطت بفعل فاعل او (بانقلاب)؟ الانقلاب اذا نجح يسقط حكومة ولا يسقط دوله . الثورة تسقط نظاما ولا تسقط دولة. ما يسمى بثورة 11 فبراير اسقطت نصف نظام ولم تستطع أن تكمل. وخلقت شبه فراغ وفوضى ولم تبن نظاما بديلا. اذا كان الحوثيون قد أسقطوا دوله فما قاموا به أكبر من ثورة. بل معجزة تخرق قوانين التاريخ وطبايع العمران.
الدول تسقط بذاتها لا بفعل فاعل وتنهار من داخلها او لعوامل موضوعية من خارجها، و في حالات وظروف معينة ومحددة
اذا انتهى عمرها الطبيعي لأن للدول أعمار(نظرية الدورة العصبية وأعمال الدول للعلامة ابن خلدون) وصعدت عصبية جديدة.
اذا كانت دولة فاشلة (الدول تمرض وتفشل)
غزو خارجي قد يسقط الدولة ولكن ليس بالضرورة. اليابان مثلا ضربت بالقنابل النووية ولكن الدولة صمدت. ولكن نظام الرايخ في المانيا انهار وقسمت الدولة الالمانية.
اذا تفسخت الحضارة او الثقافة الحاملة وأدى إلى انهيار اجتماعي (الإمبراطورية الرومانية، الخلافة العباسية. الخ)
منطقيا اذا كانت مليشيا توصف بأنها أقلية أو هامشية اسقطت دولة، فهذا يعني أن هذه المليشيا اقوى من الدولة. هذه الحجة تعطي المليشيا قيمة أكبر من حجمها وقدرتها. وهو تناقض.
اذا سقطت دولة بيد مليشيا أو عصبية (بالمعنى الخلدوني) او حركة اجتماعية. او قوة سياسية الخ. هذا يخلق فراغا والطبيعة تكره الفراغ. هذا يعني أن الفراغ الناجم عن سقوط الدولة ملئته هذه القوة ولا يحصل ذلك الا اذا كانت مؤهلة أكثر من غيرها لملء هذا الفراغ. وهذه يضفي عليها مشروعية اكبر من الناحية الفعلية لان الامساك بالسلطة وحفظ الامن مهما تكن القوة التي تقوم بذلك افضل من الفراغ وما ينجم عنه من فوضى ومفاسد في حالة انهيار الدول ويجعل من الإمساك بالسلطة ضرورة بل واجب على أي قوة قادرة على ذلك. وهذا يزيد من ميزان حسناتها وليس العكس.
هذا اذا كانت الدولة هي فعلا التي سقطت او انهارت وخلفت فراغا دستوريا او سياسيا، وليس السلطة السياسية او النظام السياسي او الحكومة او “الرئيس” المؤقت الذي انتهت صلاحيته.
ولهذا فإن ما حدث في 21 سبتمبر 2014 لا انقلاب ولاثورة. وإنما شيء آخر
اولا. ليس انقلاب لأنه تلاه حوار والانقلابات لايعقبها حوار. ولأن الانقلاب يسقط حكومة وأصحاب نظرية الانقلاب يقولون انه أسقط دوله والانقلاب لا يسقط دولة. ولأن الانقلاب ينجح او يسقط وهذا الحدث لم تستطع حرب شبه عالمية ان تسقطه وبالتالي فهو ليس انقلاب.
ولا هو ثورة.
لأن الثورة تسقط نظام ولا تسقط دولة. ولأن الثورة تكتسب هويتها بنتائجها وليس بنوايا أصحابها.
فما هو اذا هذا الذي أسقط دولة
الدول لا تسقط بفعل فاعل لا بالانقلابات ولا بالثورات ولا بالحروب ولا حتى بالضرب بالقنابل الذرية. الدول تسقط بنفسها و من داخلها بعوامل موصوعية كالأمراض والشيخوخة والزمن… فللدول أعمار، كاعمار البشر ، قدرها ابن خلدون بثلاثة أجيال في المتوسط. الذي حصل انهيار الدولة التدريجي نتيجة أزمة أسفرت عن وجهها بعد الوحدة لعدة عوامل يطول شرحها. الفصل الأخير سموه أزمة دستورية وفراغ سلطة.
هذا الفراغ ملئته “عصبية” جديدة تماما كما وصف ابن خلدون هذه الظاهرة المتواترة في التاريخ. صادف ان هذه العصبية كانت أنصار الله. وهو مالم يرق لابن سلمان فشن عليها حربه العبثية المجنونة في تكرار لم يكن مصادفة لحرب 76- 62 مع انقلاب الأدوار.
نظرية ان “الانقلاب سبب الحرب” سقطت نهائيا بجريمة خاشقجي. جميع ويلات اليمن والمنطقة الأخيرة سببها الرئيسي جنون ابن سلمان الإجرامي-ودخول ترامب وكوشنر على الخط لدعمه- وليس إيران ولا أنصار الله.
لا دفاعا عن أنصار الله، ولكن قراءة لطبايع العمران
هل صمود جماعة توصف بأنها ميليشيا واقلية للسنة الرابعة في مواجهة صلف ومقدرات هجمةسعودية و تحالف 10 دول ومدعوم من أمريكا والناتو وبريطانيا وفرنسا وإسرائيل والمخابرات الأمريكية، فضلا عن حكومة هادي وجيشه “الوطني” وما تسمى بالمقاومات الجنوبية والتهامية وغيرها والعمالقة وقوات طارق صالح الخ .. هل هو فشل ام انه في موازين القوى يعني ان هذه الجماعة ندٌ لكل هذه الجحافل مجتمعة؟ الجحافل التي جمعت بالأموال السعواماراتية ولتلاقي المصالح الجشعة للغرب الاستعماري مع المطامع التوسعية للجيران مع غل ذوي القربي الذي اعمى الحقد بصائرهم؟
إن هذه الجماعة لاتهزم وغير قابلة للهزيمة مهما طال الزمن لثلاثة أجيال قادمة، على الاقل.
لماذا؟
الجواب عند ابن خلدون لو كانوا يقرأون او يعقلون او يعدلون.
ابن خلدون اكثر من عالم اجتماع واكبر من مؤرخ. وهو واحد من أكبر 20 عبقريا في العالم. الرجل موسوعي ومؤسس علم جديد اسمه العمران، بما هو خلاصة القوانين المستفادة من دراسته لديناميات الحركات الاجتماعية (العصبيات) على البعدين المكاني/الجغرافي والزماني /التاريخي. نظرية ابن خلدون في الدورة العصبية وطبايع العمران تفسر لماذا وكيف تقوم الدول وتسقط وكم تستمر. وكيف تحول العصبيات الجديدة المجتمع والدولة من البداوة إلى الحضارة خلال دورة حياتها وكيف تأفل في نهاية المطاف وتسقط بافولها الدولة لتفسح المجال لعصبية (حركة اجتماعية فتية صاعدة )جديدة للدخول إلى مسرح التاريخ واقامة دولة جديدة.. وهكذا دواليك ..عبر دورات تستمر كل منها 3 أجيال في المتوسط.
هذه النظرية تفسر ايضا لماذا دخل الحوثيون على العاصمة صنعاء وسيطرة عليها في أيام وبأقل الخسائر وسقطت المحافظات في أيديهم في اسابيع بلا مقاومة تقريبا. وكيف قضوا على خصومهم بسهولة ويسر. من كان يتصور مثلا سقوط ال الاحمر وعياله وبقية المشايخ وعلي محسن وعلي عبدالله صالح ونظامه وطبقة سياسية كاملة بمثقفيها وساستها وحركتها الوطنية القديمة واحزابها المعتقة التي انتهت إلى الارتماء في أحضان عدوها التاريخي.. بينما لم يستطع التحالف القضاء على هذه الحركة على مدى أكثر من 3 سنوات حتى الآن ولن يستطيع مهما فعل رغم حشده لما استطاع من قوة وحلفاء على مستوى العالم. بل المتوقع مادام قد تورط ال سعود وزايد في الشأن اليمني ان تسري عليهم طبايع العمران (وهي جبربة كقوانين الطبيعة) وتسقط دولهم التي ناهزت الجيل الثالث ونخرها الترهل والفساد والظلم والترف.. (وكلها مؤذنة بخراب العمران) من داخلها ولن تغني عنهم الطيارات التي لاتطير إلا بدعم أمريكي لن يستمر الى الابد. لماذا؟ لأن ال سعود وزايد عصبيات قديمة افلة وأنصار الله عصبية جديدة صاعدة.
استطرادا، يمكن توقع انه مادام تدخلت السعودية وأمريكا وغيرهما في الشأن اليمني فستتدخل قوى أخرى مضادة بفعل قانون الفعل ورد الفعل وقانون حفظ توازان القوى كما حصل في سوريا والا فسيخرب العالم. كل ما هو مطلوب من أنصار الله الصمود إلى أن تتعدل موازين القوى ولن تنتهي الحرب إلا بهزيمة التحالف وسقوط الأسر الحاكمة فيه وانسحاب أمريكا من الصراع كما انسحبت من أكثر من صراع في العقد الأخير من السنين (نمر من ورق كما قيل).
اما الفشل الحقيقي ففشل من تسمي نفسها حكومة و هي لاتحكم وتصف نفسها بالشرعية.(وهل سمعتم عن حكومة شرعية في العالم تتغنى بشرعيتها صباح مساء؟ وهل سمعت بشرعية توصف بأنها المعترف بها دوليا (امريكيا) تعويضا عن الافتقار إلى الاعتراف الوطني؟) وياليته مجرد فشل بل هي جريمة خيانة عظمى تستحق عليها المحاسبة طال الزمن ام قصر.
حركة اجتماعية واعدة
العصبية بالمصطلح الخلدوني هي حركة اجتماعية بالمصطلح الحديث. أنصار الله عصبية جديدة أي حركة اجتماعية جديدة فتية صاعدة. هذه حقيقة واقعة موضوعية ووصف محايد.
في الواقع كانت هناك عصبيتان مرشحتين لملء الفراغ الناجم عن انهيار الدولة {وهو انهيار طبيعي، اي متسق مع طبايع العمران، بعد ان ناهزت دولة (الجمهورية الأولى ->>> جمهوريتي سبتمبر + اكتوبر > مايو) عمرها الطبيعي قرابة 60 عاما وانهارت من الداخل بكل عوامل السقوط التي شخصها أبو زيد}.
العصبيتان/ الحركتان هما: الأولى (القاعدة في جزيرة العرب/ أنصار الشريعة/ داعش الخ.) والثانية أنصار الله. كانت أنصار الله مهيأة ذاتيا وموضوعيا أكثر من غيرها لملء الفراغ بشكل طبيعي من دون ان يحتاجوا إلى قراءة سطرا واحدا من ابن خلدون. لأن هذه الطبايع قوانين طبيعة موضوعية كقوانين الطبيعة وسنن التاريخ. ويعتبر ملء فراغ السلطة ضرورة لما ينجم عن الفراغ من مفاسد وخراب للعمران. ومهما كانت اخطاء الجماعة فإن سيطرتها على الوضع ليس حقا بل واجب تثاب عليه. القاعدة أيضا أقامت سلطة مؤقتة في حضرموت لفترة وجيزة لا نعرف عنها شيئا. وما تسمى مناطق محررة تتقاسمه سلطات محلية واجنبية متعددة ومتنافرة تسودها الفوضى والانقسام كسياسة متعمدة للاحتلال.
يكفي أنصار الله شرفا وفخرا انهم تصدوا ويتصدون للغزو الأجنبي والعدوان الخارجي ويقاوموه بكل ما اوتوا، وما زالو. ويحفظون الأمن في المناطق التي تحت أيديهم. وهو أضعف الإيمان لأي سلطة. واي منجزات أخرى تحتسب لهم ، زيادة نعمة في ظل هذه الظروف. وما الحصار الخانق على هذه المناطق إلا للحيلولة دون انتقال رؤوس الأموال إليها من المناطق الطاردة بحثا عن الأمن والأمان للاستثمار. اما ما تسمي نفسها حكومة فلو انها تحكم أصلا و تجترج بالفعل نموذجا ينفع الناس لما كانت هنا حرب من حيث الأساس .
جاء العدوان السعودي جاء لإجهاض ولادة الجمهورية الثانية مثلما حاول إجهاض ولادة الجمهورية الأولى. وحتما سيفشل.
تجربة أنصار الله
نحتاج في مقاربة تجربة أنصار الله إلى التحرر من الرواسب المذهبية والطايفية الموروثة، وأن نراهم كما هم لا كما يشيطنهم خصومهم وذبابهم الالكتروني بسوء نية. فهم ليسوا ملائكة ولا هم شياطين بل شباب يجتهدون، يخطؤون ويصيبون. ومعظم ما ينسب إليهم من اخطاء ناجمة عن قلة خبرة في ادارة الشؤون المدنية من جهة و”وحشية البداوة” التي تتسم بها كل عصبية جديدة في بداية جيلها الأول، قبل ان تكتسب “رقة الحضارة” في طورها الثاني، من جهة ثانية، و مثالب من التحق بها من فلول النخب العفاشية القديمة الفاسدة من جهة ثالثة.
وهو ما يدعم القول انهم عصبية او حركة جديدة فتية صاعدة لابد أن تنقي صفوفها وتصوب مسيرتها. ومع ذلك فلا يعرف إلا القليل ان الكثيرين من قادة الحركة وكوادرها وعناصرها مؤهلون تاهيلا عاليا في مختلف التخصصات ولا يستعرضون ذلك تواضعا وتعففا. وهذا سر من اسرار تفوقهم على العصبيات القديمة. وهي وغيرها كثير المناقب والفضائل الأخلاقية العالية لا يريد خصومهم معرفتها ولا الاعتراف بها.
حول العنف: كل الحركات التغييرية الكبرى .. سمها ثورة او ما شئت.. جاءت بالقوة. يقول عبد العزيز آل سعود “اخذنا الحكم بالقوة و قطع رقاب. ليالي مظلمة تصبح بها الشبان شياب” وعليه فقس. انا لا ادعو الى العنف ولكن الانتقال السلمي الديمقراطي له شروط وطبايع ولا يصلح إلا في دول استقرت أنظمتها بعد إجماع على عقد اجتماعي. ومع ذلك فقد كانت تجربة الأنصار (لولا التدخل السعودي) تكاد يكون بلا عنف او بعنف رمزي مقارنة مثلا بأحداث ك 13 يناير 86 في عدن او غيرها كثير من امثلة العنف المجاني او العنف الإرهابي.
فهل نتوقع جمهورية/ مدنية /دستورية/ ديمقراطية / مستنيرة/ عادلة من العدوان السعواماراتي؟!
*كاتب ومفكر يمني
نقلا عن رأي اليوم