احتلال الحديدة وفق معايير الكسب الأمريكية ليس اختراقها عسكرياً، وإنما سلخها جيوسياسياً عن بنية الوجود اليمني التاريخي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي؛ وإذا كان بوسع «التحالف» بلوغ الوجهة الميدانية بغطاء جوي وبحري ناري مفرط وزخم بشري قتالي بري هائل، يجتاح الأخضر واليابس، فإن بلوغ الوجهة السياسية المؤملة أمريكياً من هذا الاختراق العسكري، مستحيل بغير إماتة المقاومة كلياً على الجانب اليمني القابض على دفة المواجهة الشعبية الثورية، واجتثاث البنية الاجتماعية للوجود الثوري المقاوم، أو انتزاع تنازل طوعي غير مشروط منه عن السيادة على ترابه الذي يذود عنه باستماتة مبدئية منذ أربعة أعوام، وهذا ما لم يكن ولن يكون.
تغالي «ميديا العدوان الكوني»، في استيلاد حصاد استباقي هائل من مجريات بطيئة لهجوم عسكري فارق وضخم يشنه «التحالف الأمريكي» للمرة المائة بغية «احتلال الحديدة»، وذلك للتعتيم على جملة مآزق دول تحالف العدوان على مستوى مسرح الاشتباك العسكري في اليمن، كما وعلى مستوى البنى الداخلية المتداعية لأنظمة هذه الدول.
لا تستطيع المملكة السعودية ميدانياً ـ على سبيل المثال ـ وقف موجات التوغل العسكري اليمني النوعي في عمقها الجنوبي وتأمين حدودها البرية والبحرية التي باتت من الماضي برسم الواقع على الأرض.
بينما تواجه الإمارات وضعاً شعبياً شديد الاحتقان في جنوب اليمن المحتل، أفصح عن نفسه بصورة جلية في الانتفاضة المهرية ضدها وضد المملكة و«التحالف»، كما وفي صورة سلسلة احتجاجات سخط ورفض للتحالف وأدواته «انتقالي وشرعية معاً»، شهدتها مدن رئيسة محتلة أبرزها «تعز، عدن وحضرموت، والضالع» على خلفية انهيار الوضع المعيشي وانفضاح أطماع «التحالف» القذرة إزاء تراب وثروات اليمن وشعبه بلا استثناء.
إلى ذلك، فإن عواصم ومدن ومنشآت وقصور المملكة والإمارات موسدة لضربات اليمن الباليستية والجوية المسيَّرة، وهذا مأزق مزمن لا يمكن التعافي منه بـ«هجوم عسكري على الحديدة» مهما كان حجمه ونتائجه على الأرض، ولا بتدمير هذه القدرات العسكرية النوعية اليمنية وهذا ما فشل «التحالف» فيه لا ما يستهدفه اليوم بهجومه التصعيدي الأخير.
وثمة تعقيد آخر في مسرح الاشتباك يعمد إعلام العدوان إلى تغييبه في سياق تضخيمه لمكاسب زحوفاته الصبيانية على الحديدة. هذا التعقيد يتمثل في كون خيارات الرد البحري اليمني التي ثبتت نجاعتها لا يزال تفعيلها وارداً فيما إذا تغاضى المجتمع الدولي والأمم المتحدة عن استهدافات التحالف المتنامية والعمدية لبنية الحديدة التحتية وإقحامه لهذا الحيز المكاني الحيوي الذي جمدت القيادة الثورية عملياتها البحرية لوجه الالتزام الأممي والدولي بالضغط على «التحالف» لتحييده كمتنفس إنساني لملايين الناس في اليمن.
يدخل «التحالف» ـ إذن ـ بتصعيده العسكري الأخير حقل ألغام غير معلوم التخوم، لا حديقة ملاهٍ وساحلاً ذهبياً للاستجمام وحفلات الشواء.
وإذا لم تسارع الأمم المتحدة لاستنقاذه بجولة مشاورات عاجلة فإنها تكون قد سمحت بفتح «صندوق باندورا» ووقفت تراقب لاهية وثوب خفاياه بلا عنان.