في سلسلة تناقضاته بل واستداراته الحادة على صعيد السياستين الداخلية والخارجية، أمر الرئيس إردوغان أتباعه في البرلمان بالمصادقة على انضمام السويد إلى الحلف الأطلسي (الناتو)، وهو الذي هدّدها وتوعّدها في أكثر من عشرين خطاباً على الأقل خلال العامين الماضيين بعد أن اتهمها بدعم الإرهاب، ويقصد به حزب العمال الكردستاني، وهو ما فعله حليفه زعيم حزب الحركة القومية دولت باخشالي، وأكثر من مرة.
إردوغان الذي سبق له أن عوّد المواطن التركي على هذا السلوك مع فنلندا، ووافق على انضمامها إلى الحلف نهاية آذار/مارس 2023 قال آنذاك إنه " لم ولن يوافق على انضمام السويد، عدو تركيا والإسلام إلى الحلف؛ لأن المرء لا يلدغ من الجحر مرتين".
أقوال إردوغان هذه كانت حجته لرفع سقف المساومة مع الحليف الأكبر واشنطن، التي استبعدت تركيا من برنامج طائرات أف 35 ثم رفضت بيعها طائرات أف 16، وتحديث ما لديها من هذه الطائرات.
كما رفض الاتحاد الأوروبي العودة إلى مباحثات العضوية مع أنقرة، وهو ما تحجج به إردوغان عندما وافق على انضمام فنلندا، مع الحديث عن المزيد من التفاصيل التقنية في محاولة منه لإقناع الرأي العام التركي الذي ما زال يتذكر تهديد إردوغان ووعيده لفنلندا والسويد، بل وحتى أميركا والحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي، وكان إردوغان قبل كل انتخابات يعدّ هذه الدول أعداء له ولتركيا، ويتهمها بدعم المعارضة "العميلة والخائنة والمتواطئة مع الغرب ".
البرلمان الذي صادق على انضمام السويد بأغلبية 287 واعتراض 55 من أعضائه، وعددهم 600، تعرض إلى انتقادات عنيفة من المعارضة وحسابات التواصل الاجتماعي التي ذكرت المواطنين بتناقضات إردوغان وإخفاقاته في علاقاته الخارجية برمّتها.
المتحدث باسم حزب السعادة الإسلامي بولند كايا اتهم الرئيس إردوغان بـ"الرضوخ لتعليمات واشنطن التي لم تلبِ أياً من مطالب أنقرة، وتدعم الكيان الصهيوني الذي يقتل الشعب الفلسطيني" وقال " هذا مع استمرار دعم السويد ومعظم دول الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي لحزب العمال الكردستاني وجناحه السوري وحدات حماية الشعب شرق الفرات ".
العديد من المتحدثين باسم أحزاب المعارضة اتهموا الرئيس إردوغان بـ" تقديم كل التنازلات المطلوبة والمفروضة عليه من قبل واشنطن، ليس فقط في موضوع السويد وفنلندا بل في ما يتعلق بمجمل السياسات الخارجية منذ أن أصبح شريكاً في مشروع الشرق الأوسط الكبير في حزيران/ يونيو 2004 ".
وقال أركان باش زعيم حزب العمال التركي " إن أنقرة لعبت وما زالت تلعب دوراً أساسياً في الربيع العربي الذي دمّر المنطقة وتركيا معها، وهو مستمر في هذا الدور داخل الحلف الأطلسي المتورط في حرب أوكرانيا".
وذكّرت العديد من وسائل الإعلام المعارضة بـ"سجل إردوغان الأسود " في هذا المجال، حيث هدّد وتوعّد الرئيس أوباما خلال أحداث عين العرب (كوباني) عندما رفض إيصال المساعدات إلى الميليشيات الكردية التي كانت تقاتل "داعش" بيد أنه عاد وسمح للبشمركة الكردية العراقية بالمرور من الأراضي التركية ودخول كوباني بعد اتصال هاتفي من أوباما في 20 تشرين الأول/أكتوبر 2015. ولحق ذلك موافقة إردوغان على عضوية "إسرائيل" بصفة مرافق في الحلف الأطلسي في أيار/مايو 2016، بعد أن وافق أيضاً على انضمامها إلى منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي OECD في أيار/مايو 2010، على الرغم من تهديداته لهذا الكيان حتى كاد أن يعلن الحرب عليه في نهاية أيار/ مايو 2010 عندما قتل "الجيش" الإسرائيلي 10 مواطنين أتراك كانوا على متن سفينة مرمرة في طريقها إلى غزة.
وعاد إردوغان وصالح هذا الكيان الذي تبرع بعشرين مليون لضحايا السفينة، وأمر المحاكم بإغلاق ملف القضية والتقى نتنياهو في أيلول/ سبتمبر الماضي في نيويورك بعد زيارة هرتسوغ إلى أنقرة في آذار/مارس 2022.
ويتذكر الرأي العام التركي أيضاً تهديدات الرئيس إردوغان للرئيسين ترامب وبايدن لدعمهما الميليشيات الكردية في سوريا، وهي امتداد لحزب العمال الكردستاني التركي، ثم تهديداته لولي العهد السعودي محمد بن سلمان متهماً إياه بقتل الصحفي جمال خاشقجي في إسطنبول ولمحمد بن زايد رئيس الإمارات بحجة دعمه لمحاولة الانقلاب الفاشل في تموز/ يوليو 2016، وقيل إن جماعة الداعية فتح الله غولان المقيم في أميركا تقف خلفه.
وكان الرئيس السيسي هو الأخير في مسلسل الوعيد والتهديد للرئيس إردوغان الذي لم يفوّت أي فرصة لمهاجمته واتهامه بـ"الديكتاتورية والاستبداد والقتل والإجرام"؛ لأنه أطاح صديقه الرئيس محمد مرسي" ثم طلب من صديقه وحليفه الإقليمي الوحيد تميم آل ثاني ليجمعه معه في قطر.
تناقضات الرئيس إردوغان هذه يبدو أنها ليست ضمن اهتمامات أتباعه وأنصاره الذين يصوّتون له مهما فعل، بل وحتى إن كان هذا الفعل يعنيهم مباشرةً كما هي الحال في الغلاء وارتفاع الأسعار والتضخم وتراجع القيمة الشرائية بانعكاسات ذلك على حالات الإفلاس والفقر والجوع بعد الأزمة المالية والاقتصادية التي تعاني منها البلاد وأهم أسبابها سياسات إردوغان الخارجية.
وتفسر الدراسات هذه الحالة داخل المجتمع التركي باستخدام الرئيس إردوغان الذي يسيطر على 95٪ من الإعلام الحكومي والخاص المقولات والشعارات القومية والدينية والطائفية بنجاح. وأثبتت هذه المقولات تأثيرها في الأوساط الشعبية الفقيرة والمتدينة والأكثر تأثراً بسياسات إردوغان المالية الفاشلة باعتراف الجميع وسببها الفساد الخطير، وتتهم المعارضة إردوغان وأولاده والمقربين منه بالتورط فيه.
كيف سيكون رد موسكو والرئيس بوتين على موافقة إردوغان على انضمام السويد ومن قبلها فنلندا إلى "الناتو"، وهما الدولتان اللتان تحدان روسيا من الشمال الغربي، ما سيهدّد أمنها القومي.
يبدو أن موسكو لا تريد إزعاج أنقرة التي تملك العديد من الأوراق لإحراجها ومنها مضيقا البوسفور والدردنيل المنفذ الوحيد لخروج السفن الروسية من البحر الأسود إلى الأبيض المتوسط. كما لا تخفي موسكو قلقها من علاقات أنقرة مع الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى والقوقاز ذات الأصل التركي الحديقة الخلفية لروسيا ويعيش فيها أكثر من 20 مليون مسلم يتعاطفون دينياً وقومياً مع تركيا.
ومن دون أن يكون واضحاً هل وكيف سيستغني إردوغان عن علاقات بلاده مع روسيا التي تبني مفاعلات نووية في تركيا بقيمة 30 مليار دولار كما هي تغطي نحو 50٪ من احتياجاتها من الغاز الطبيعي في الوقت الذي تنفذ فيه الشركات التركية مشاريع إنشائية بعشرات المليارات من الدولارات في روسيا، ويزور نحو 6 مليون من مواطنيها تركيا سنوياً، واشترى نحو 200 ألف منهم مساكن لهم في تركيا بعد الحرب الأوكرانية.
في الوقت الذي وقفت فيه أنقرة مع كييف في هذه الحرب عبر بيعها المسيّرات للجيش الذي نجح في استعادة العديد من قيادات منظمة آزوف الفاشية من تركيا، بعد أن سلمتهم موسكو لها على أن يبقوا هنا في إطار صفقة تبادل الأسرى، وهو ما أزعج الرئيس بوتين الذي لم يخف انزعاجه من سياسات الرئيس إردوغان الذي يدعم كل من هو معاد لروسيا في شمال سوريا ولآن شمال غرب روسيا، أي فنلندا والسويد كما فعل ذلك في جنوبها أي القوقاز وآسيا الوسطى!
* نقلا عن :الميادين نت