أجملُ الصور وأحسنُ الأسماء هي صورُ الشهداء وأسماؤهم، الشهداءُ الذين نودِّعُهم كُــلَّ يوم، ونَحتفي بهم لنقرعَ أجراسَ الذكرى ونوقظَ الضمائر، وَلنرتفعَ ولو قليلاً إلى مستوى عظمة مآثرهم.
الجمالُ والحُسْنُ اللذان أعنيهما، هما أعمقُ من الصور المرئية والأسماء المقروءة، فهما يقعان في عالم الروح، ما وراء الجسد والمادة، وما لا تدركُه الحواسُ..، إنه جمالُ الفعل والمعنى والمغزى من الشهادة..، إنه الجمالُ الأَخْــلَاقي.
لفكرة جمال الفضيلة حضورُها المبكرُ في تأريخ الفلسفة، منذ أفلاطون الذي جعلَ الجمالَ مقياساً للفضيلة، مروراً بعصر النهضة الأوروبية (القرنان الخامس والسادس عشر) الذي رأى مفكّروه أن الطبيعةَ والإنْسَانَ والأرضَ وكلَّ الكائنات قد أبدعها الخالقُ وفقاً لقانون جمالي، هو قانونُ النسبة والتناسب الإلهيين، فاللهُ يخلقُ كُــلّ شيءٍ بعددٍ ومقدارٍ محدّدين ليتحقّقَ في الوجود ذلك التناغمُ والانسجامُ اللذان يأسران الألبابَ التي لم يصبها التحجُّرُ ولم يعمِها تفضيلُ القُبح.
أَمَّا في العصر الحديث فإن فيلسوفَ الأَخْــلَاق، الإنجليزي شفتسبيري (1713-1671) قد جَعل الجمالَ والأَخْــلَاقَ شيئاً واحداً، ونقل مقاييسَ ونسبَ الجمال الحسي إلى الجمال الأَخْــلَاقي، جمال الروح الإنْسَانية الخيّرة بطبعها. ووفقاً لهذه الرؤية لا يكونُ الإنْسَان جميلاً أَخْــلَاقياً، أي فاضلاً إلا إذا قَمَعَ مُيُولَه الأنانية المحضة وسيطر على ميوله الطبيعية -رغم أنها غيرُ ضارة- ونمَّى إلى أقصى حَدٍّ ميولَه الغيرية، وهي الميولُ التي تدفعُه لفعل الخير وللتضحية من أجل الآخرين، من أجل المجتمع والجنس البشري الذي هو جزءٌ منه.
يُحقِّقُ الشهداءُ هذا الانسجامَ الجميلَ بين الأهواء، في أكمل وأوفى صوره؛ لأَنَّ منتهى الإيثار وحَدَّه الأقصى أن يفتديَ الإنْسَانُ بلادَه وشعبَه بحياتهِ، والحياةُ هي أثمنُ ما يملك، وهي تعطى لمرة واحدة في هذا العالم الفاني.
يجسّدُ شهداؤنا أكملَ الفضائل التي تطلعت وتتطلعُ إليها الشعوبُ وتفاخرُ بها وتراكِمُها في وعيها التأريخي وفي رصيدها من القيم. ففيهم الشجاعة التي تمكّنُهم ليس فقط من النظر إلى عيون الموت ومقابلته وجهاً لوجه، بل والذهاب إلى ساحاته طواعيةً واختياراً واعياً ومُكابدة أهوال لا تقلُّ عن لحظة الموت وحقيقته ثقلاً نفسياً.
وفي الشهداء بلغت فضيلةُ الكرم حدَّه الأقصى. فإذا كان الكرمُ والإيثارُ في أشكاله التقليدية مهما بلغ كرمُ الكريم يقتصرُ على بذل المال والأشياء فإن الشَّهِيْــدَ يبذُلُ النفسَ التي تملك وتوجد المال والأشياء.
استهل الفيلسوفُ أبو بكر السقّاف مقالتَه عن الشَّهِيْــد حسن الحُريبي بالقول: ((لا يختارُ الإنْسَانُ حياتَه فحسب، بل يختار موتَه أيضاً بمعنى من المعاني، وبدرجة أَوْ بأُخْـــرَى، وإذا كان ذلك لا يتحقّق في الأَيَّام العادية، فإنه في الأَيَّام الاستثنائية في حياة الشعوب يصبح أكثر اقتراباً من التحقّق)) ( صحيفة صوت العمال 14 نوفمبر 1991).
بالفعل، تعد هذه الأَيَّام أيّام العدوان الذي بلغ من العمر سنوات أربع أكثر الأَيَّام استثنائيةً في تأريخ وحياة الشعب اليمني، إذ لم يتعرض لعدوان بهذه القُــوَّة والنزعة الإجرامية المتوحشة، ولم يتعرضْ لخطر يستهدفُ وجودَه كشعب ودولة بهذا الحقد والفجور والرغبة الجامحة في استعبادِ شعب بكامله واستئصال كيانه الجامع وتحويله إلى مجموعات سُكانية مذلة ومهانة.
هذا الخطرُ الوجودي بكل أبعاده يعني أن الدماءَ التي تُسفك، أي دماء شهداء القضية كما صنّفهم السيدُ عبدُالملك الحوثي هي الثمنُ الباهضُ الذي يتحتمُ دفعُه ليبقى لنا، نحن اليمنيين كيانٌ ووطنٌ نختلفُ ونتفِّقُ عليه وفيه وعلى سُبُلِ ووسائل بنائه وإدارته كما فعلت وتفعلُ كُــلُّ شعوب العالم.
هكذا هم إذاً الشهداءُ بهذا الجمال والكمال يلجون إلى العقل من القلب، فاجعل لعقلك قلباً يا صاح، أَوْ انتظر الزمنَ الذي يجَلِّي لك الحقيقةَ وينتزعُها من بين ضلال التحيُّزات ورونق الأوهام لتبدو عاريةً كما ولدتها أُمُّها وأُمُّها صراعُ الإرادات في عالم البشر، فليس عبثاً أن يسمِّيَ الرومان الزمنَ آلهةَ الحقيقة.
ولا يجاري الشهداءَ في شجاعة الصبر وكَرَمِ العطاء إلا ذووهم، فسلامٌ عليهم أجمعين.
سلامٌ على أمهات..
ينهضن في الأسحار..
يبتهلن إلى الله..
يخبزن قوت المجاهد..
يسرن على أرض معجونة بالدماء..
شامخات وأكبادهن في السماء